الاستعمار الثقافي، والغزو الفكري، والتبعية الحضارية

منذ 2024-05-13

هذا السُّوس الذي نَخَر في مجتمعِنا، ومؤسساتنا الإعلاميَّة والحكوميَّة والفكرية، الذين لا همَّ لهم إلا التَّقليل من شأن أصالتنا، والتحقير لتاريخنا، والاستنكار لأعرافِنا وعاداتنا ومُجتمعنا..."

الاستعمار الثقافي، والغزو الفكري، والتبعية الحضارية

إنَّ ما حدث ويحدث مِن مُحاولات سَلْخ الأمة عن ماضيها، وعَزْلِها عن واقعها، وتَهْميش دورها الحضاري، وإضعافها مستقبلاً تمهيدًا لتدميرها، لم يكن وليدَ هذه الأيَّام، وإنَّما هو نتاج عقود من العمل الدَّؤوب، وحياكة المؤامرات، وزراعة الفِتَن والأشواك الضارَّة السامَّة من عُمَلائهم، ربيبة الاستعمار الثقافيِّ، جنود الغَزْو الفكري ودُعاة التَّبعية الحضاريَّة، فحملات دعاة التغريب المستمرَّة، والتي أثبتَتْ خيبتَها فيما تدعو إليه من تقدُّمِنا الحضاري، بل أدَّت إلى تَهْميشنا حضاريًّا، وتهشيمنا علميًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، وتبَعِيَّتِنا لغربيَّتِهم، (وهذا هو الهدف الحقيقيُّ وإن ادَّعوا العكس)، ونجحَتْ في اغترابنا في مُجتمع لم نَعُد نألفه، وواقعٍ لَم نعد نسيطر عليه، وما زالت تنادي بأنَّنا في حاجة إلى مزيد من التَّغريب؛ فلم نستورد ما يكفي من القِيَم والمبادئ، والأخلاق والدِّين لنتقدَّم مثلهم، وما زالت ألسنتُهم وأقلامهم تَلُوك العبارات الفجَّةَ المسمومة من أنَّ سببَ تخلُّفِنا هو الإسلام، مُنادين بِمَزيد من التبعيَّة للغَرْب "المتقدِّم"، والاستزادة من التخلُّص من تراثنا الفكريِّ والتاريخي، وأصالتنا الحضاريَّة، وديننا القويم؛ لنتقدَّم! فذريعة التقدُّم التي دعَوْا إليها وصاحُوا ونادَوْا بها، لِدَفْن ماضينا، وإهْمال أصالتنا، وسَحْق كرامتنا باعتبارنا الطَّائفة المهزومة فكريًّا وحضاريًّا، وثقافيًّا واجتماعيًّا في معركتنا مع الاستعمار في بدايات هذا القرن، والتي بَهرنا بها المستعمر بأسلحته وتقنيته، و"حضارته".

 

هذه الذريعة "التقدُّم"، لَم تكن تستهدف "تقدُّمَنا"، أو "رقيَّنا"، أو "تَحضُّرَنا"، أو "تفوُّقَنا"، إنَّما هدفت - وما زالت تَهْدف - إلى نشر الاستعمار الفكريِّ، ورَبْطِنا بالتبعية للمستعمر السابق وجلاَّد الأمس، وقَتْل أصالتنا الحضاريَّة، الفكريَّة، الثقافيَّة، التاريخيَّة، الاجتماعيَّة، فعن طريق غَزْو العقول، وتشويه الأفكار وتشويش الوقائع والأحداث، ورَبْطِنا روحيًّا ومعنويًّا بالمستعمر السابق، وإضْعافنا اجتماعيًّا، وأخلاقيًّا واقتصاديًّا، لِيَسهل ربْطُنا بهم وانقيادُنا لهم، وتبعيتنا لمؤسساتهم والتزامُنا بأحكامهم.

 

هذه الفئة من العملاء الثقافيِّين والغُزاة الفكريِّين ودُعاة التبعيَّة، إنَّما هم جنود لِمُستعمر لم يُجْلَ عن أرضِنا ومؤسَّساتِنا ونفوسنا، وإعلامنا وتعليمنا واقتصادنا، لكلِّ دورة في الْهَدم والتخريب، أو التَّشويه والتشويش، أو الطَّمس والتدليس، ولكن لِمَ يربطون نتاج أعمالِهم القذرة الخبيثة بالإسلام؟ أو يدَّعون أن الرجعيَّة - "ويقصدون الإسلام" - هي سبب التخلُّف؟!

 

هذا السُّوس الذي نَخَر في مجتمعِنا، ومؤسساتنا الإعلاميَّة والحكوميَّة والفكرية، الذين لا همَّ لهم إلا التَّقليل من شأن أصالتنا، والتحقير لتاريخنا، والاستنكار لأعرافِنا وعاداتنا ومُجتمعنا، لا ينفكُّون يستعينون بكلِّ الأسلحة، ويستخدمون كلَّ الخدع، ويجرِّبون كل السُّبل في نشر أفكارهم وشنِّ الحرب على الإسلام، وتدمير وتَهْشيم كلِّ من يفضح عمالتهم، ويكشف عوراتهم الفكريَّة، وسوآتِهم الثقافية، أو يُعْلن أهدافهم الكامنة المسمومة.

 

فِرْيَة الحضارة الغربيَّة:

يَهْدف هؤلاء العُمَلاء دومًا إلى إبْهارنا بِما حقَّق الغَرْب من إنجازات "تقنيَّة" و"علميَّة"، مُرْجِعين السبب إلى تخلِّي الغَرْب عن كهنوت الكنيسة القاصر، المعوِّق للمجتمع والحضارة، المناصر للإقطاع الاستعباديِّ الظَّالِم، واتِّخاذه سبيلَ اللاَّ دين ليتقدَّم ويتفوَّق، كما يستندون إلى تَمسُّكِنا بالـ"مظاهر" الدِّينية الرَّجعية في إطار دعواهم: أنَّ سبَب تخلُّفِنا تراجُعنا، ويعودون بأسباب التخلُّف الاقتصادي لا لسرقة فِرَقِهم الباغية الطاغية التي تَسْرق، وتدمِّرنا من الداخل، ولكن إلى أن الموظَّفين يُصَلُّون الصلوات في مَحلِّ العمل، فيقطعون وقت العمل.

 

ولا تزال دعوتُهم إلى التخلِّي عن أصالتنا، وفكْرِنا وحضارتنا "المتخلِّفة" منذ فَجْر الإسلام حتَّى الآن، مستشهِدين بالسقطات والكبوات، مدلِّسين التاريخ والأحداث والوقائع، مكذِّبين كاذبين على الأشخاص، كمبرِّر للتخلِّي عن هذا التاريخ، واستنكارهم تدميره في نفوسنا، فهم يهدفون إلى الإنكار والتبرُّؤ مِن هذا الأصل التاريخي في نفوس الشَّباب والمجتمع، من قبيل الاستعداد لِهَجْره وإعدامه، وهم بذلك إنَّما يوحون إلى المتلقِّي بِدُونيَّته الحضاريَّة والتاريخية، وعدم أهليَّتِه في المنافَسة الحضاريَّة، أو المُجاراة في العلم والتقدُّم التقني، "متجاهلين أنَّ جحافلَهم المتمَركزين في مؤسَّساتنا التعليميَّة والجامعية والبحثيَّة يدمِّرون ويحطِّمون البِنْية التحتيَّة للتقدُّم والعلم، ويُرْسون مبادئ التبعيَّة الحضاريَّة في نفوس الأجيال"، مُرْجِعين السبب إلى تَمسُّكِنا بالرجعية "الإسلام".

 

هذا الإسلام الذي يوحون أنَّه يقيِّد مفاصِلَنا الحضاريَّة، ويعوق تقدُّمَنا الفكريّ، ويعجزنا علميًّا وثقافيًّا وتاريخيًّا، ويخلِّفنا اجتماعيًّا، هو الهدف الحقيقي لهؤلاء الخِسَاس الأوغاد، فهم يستهدفون سَلْخ الإسلام عن الأرواح بعد أن سلَخُوه عن المؤسَّسات والدَّولة، والتاريخ والمجتمع.

 

ولكن ماذا يقدِّمون من بدائل: إنَّهم يقدِّمون التبعيَّة الحضاريَّة، بدلاً عن المنافسة والتحدِّي، إنَّهم استنكروا على شعوبنا الجرأة؛ لتتقدَّم وتتحضَّر، باسْمِ الإسلام.

 

ولكن مَن نتَّبِع: هل التبعيَّة الغربيَّة هي الحلُّ! ولكن السؤال الأجدى: هل للغرب حضارة؟!

 

هذا الغرب الذي ينام فقيرُه بلا طعام، هذا الغرب الذي لا يَمْلك معايير أخلاقيَّة للتقدُّم، أو إطارًا اجتماعيًّا حقيقيًّا للتقدُّم والحضارة، والتي تحوَّلَت فيه الجريمة العشوائية والمنظَّمة إلى أرقام إحصائية مهولة، هذا الغرب الذي لم يتورَّع عن نَسْفِنا وذَبْحِنا منذ أقلَّ من 70 عامًا، بذريعة التقدُّم والحضارة والرُّقي أيضًا، هذا الغرب الذي استفتح تاريخه الحقيقيَّ بإبادة الهنود الحمر في أمريكا والزُّنوج في إفريقيا، هذا الغرب الذي لم يتكلَّم عندما كان يصطاد القبائل البدائيَّة في جنوب إفريقيا؛ باعتبارهم ليسوا بشرًا "آخر ترخيص صيد للقبائل البدائيَّة كان سنة 1979"، هذا الغرب الذي لا يملك معايير أخلاقيَّة حقيقية ليقوِّم إنسانيَّتَه، ولا هيكلَ مجتمعٍ قويًّا متماسكًا لا يملك حضارة حقيقية، فكلُّ ما نراه الآن هو طفرة علميَّة، مصحوبة بِخَلل اجتماعي، أخلاقي، إنساني، فَهُم قد دمَّروا الرُّوح وحطَّموا الإنسان.

 

هؤلاء الأَوْغاد الذين يَدْعون إلى التَّبعية يتجاهَلون أن ينقلوا الصُّورة الكاملة لما يريدون منَّا أن نَتَّبِع، ويتغاضون عن أدَقِّ التفاصيل في العَرْض والطَّرْح، كما يلتزمون بالكذب والتدليس على عَقْل السامع والقارئ، وبالتَّشويه والتزوير؛ لنصدِّق فعلاً أنَّ للغرب حضارةً!... فأين الحضارة؟

 

أين الحضارة؟

إن العلم وَحْدَه لا يصنع حضارة؛ فالعلم بلا إطارٍ أخلاقي، أدَبِي، إنسانِيٍّ، وبلا كيان اجتماعي، وبلا مقدَّسات عقائدية، وبلا مقوِّمات للرُّوح والنَّفس، هو عِلْم مهمَّش، لا يُمكن التحكُّم فيه، أو السيطرة عليه لرفاهية الإنسان، وإنَّما يستغلُّ ويستخدم لقتله وتعذيبه، فهذا العلم كان مِن الضَّعف الأخلاقيِّ والأدبيِّ والإنساني بِحَيث لم يكن له صوت يُذْكَر؛ ليمنع تَجْرِبة القنبلة على "هيروشيما" و"ناجزاكي"، ولَم يَمنع من إنتاج الآلاف المؤلَّفة من الأسلحة النووية، الجرثوميَّة، والكيمايئية، والبيولوجيَّة التي لا تَهْدف إلاَّ إلى الإبادة الشاملة، غير مُمَيِّزة أو مخيِّرة بين الطِّفل والمرأة، والشيخ والرضيع والعسكر، فلا تستثني منه صغيرًا فتتركه، أو شيخًا كبيرًا فترحمه.

 

أين الوازع الأخلاقيُّ الإنسانِي، والمقوِّم الدِّيني الذي كان يفترض أن يقوِّم هذه المهزلة "الإنسانيَّة"؟ لا استغراب ها هنا؛ فقد بدأَتْ حضارتُهم على الإبادة، فالهنود الحمر أُبِيدوا مَجموعات وقبائل في أمريكا؛ لِيُفسحوا الطَّريق "للحضارة" للمستعمر المستوطِن الأبيض، فحضارتُهم المزعومة لا تَحْترم الإنسان، ولا تحافظ عليه، بل لا تكترث أو تأبه له؛ فهو بيانات إحصائيَّة للقتلى والمصابين.

 

فمثَلُهم الذي ساقوه لنا لِيُظهروا لنا عجزنا الحضاريَّ وقُصورنا التقنِيَّ، وانْحِطاطنا العلمي، وتفوَّقنا التقدُّمي الثقافي، إنَّما هو مثَلٌ مشوَّه قاصر، مليءٌ بالمتناقضات، غيرُ مكتمل الملامح والأبعاد، والبناء والهيكل، غَنِيٌّ بالنواقص والعيوب والثغرات، فالصُّورة غير مكتملة، تفتقد الإطار الاجتماعيَّ، الأُسَري، الأخلاقي والإنساني للحضارة الغربيَّة، طبعًا، فمن الصعب أن تنقل المتناقضات، وتتطلَّب اتِّباعها؛ فللناس عقول وإن جَهِلوا.

 

هذا المثَلُ الذي ساقوا وضربوا، مدمِّر نَخِر، مهترئ اجتماعيًّا: فمِن أُسَر مفكَّكة، إلى علاقات أُسَريَّة مهمشة، فمطالب واحتياجات روحيَّة مهملة.

 

وتحوَّل مجتمعُهم إلى آلةِ إنتاج تلتزم بنسق العبوديَّة، مُحوِّلاً أفرادَه إلى تُروس وأسنَّة ومفاصل لتسيير آلة العبوديَّة العملاقة، لا للحضارة؛ فَهُم أبعد ما يكونون عنها، ولكن لاستمرار الإنتاج والتحصيل، فعند كلِّ أزمة اقتصاديَّة في أمريكا مثلاً يزيد عدد فقرائها ومعدميها 10 ملايين مِمَّن ينامون دون طعام!

 

لِم لا يَنْقل أوغاد الاستعمار الثقافيِّ الصورةَ الحقيقة من الازدياد المهول لمعدَّلات الجريمة سنويًّا، والجريمة العشوائيَّة، وتَضاعُف حَجْم الجريمة المنظَّمة، وسيطرتها على الاقتصاد والشركات والمؤسَّسات والفساد الأخلاقي، والجنسي من إباحيَّة وانطلاق، لا يهدف إلاَّ إلى إرواء الشَّهوة بغضِّ النظر عن الآثار الجانبيَّة، والتَّبِعة المتضاعفة.

 

فلِمَ التغاضي والتجاهل لِمَصائبهم وعيوبِهم، وثغراتهم واهترائهم؟ وما الهدف من تجميل الصُّورة وتزوير الأحداث وتشويه الوقائع؟

فأين الحضارة؟

الاستعمار المتوطن كمرض مُزْمِن؟

 

هل أُجْلِيَ الاستعمار حقًّا عن أراضينا؟

لا؛ فالاستعمار لم يُجْل، ولم يرحل عن بلادنا المحتلَّة إلاَّ وقد فرض بدائل استعماريَّة أخرى بديلة لاستعماره العسكريِّ، واحتلاله الأرض، مصمِّمًا وسائل أخرى للتحكُّم والسيطرة وفرض التَّبعيَّة، فعيَّن أذنابًا عُمَلاء، مُخْلصين له بالولاء، ويدينون له بالتبعيَّة، ويُقْسِمون له بالعمل له، وطاعته والحفاظ على ما أرسى ورسَّخ مهشِّمين مدمِّرين مُمهِّدين الأرض والنُّفوس هذه المرَّة للاستعمار القادم.

 

هؤلاء العُمَلاء والخونة إنَّما يتحدَّثون بلِساننا، ولكنَّهم ليسوا منَّا ولَسْنا منهم، فهم لا يَبْغون خيْرَنا، ولا يهدفون لتطوُّرِنا ورقيِّنا وعِزِّنا، وإنَّما لا ينكرون أنَّهم يَسْحقون كرامتَنا، ويقتلون تاريخَنا، ولا يتورَّعون عن التسلُّل لأبنائنا في كتب التعليم، ولأُسَرنا من شاشات التلفاز، والتغلغل إلى نفوس شبابنا؛ لِفَرض رسوم الطَّاعة والتَّبَعية، وإن لم يكن فللتَّشويه والتشويش.

 

ثبَّتَهم الاستعمارُ أجيالاً وأجيالاً في الْمَناصب الحسَّاسة؛ سياسيَّة، واقتصاديَّة، وتعليميَّة، وإعلاميَّة، ودينيَّة، فهُم لا ينفكُّون عن تدمير وإعدام كلِّ مُحاولات الخروج من دائرة التبعيَّة للغَرْب، والعبوديَّة للمحتَلِّ التي فرضوها علينا للمستعمر الجزَّار الجلاَّد، العدو السابق، الصَّديق الحليف والأخ "الأكبر" حاليًّا، فيدمِّرون مُحاولات الاستقلال والإصلاح السياسيِّ والاقتصادي، ويتلاعَبون بالإعلام لصالِحهم، مشوِّهين العقول، مسمِّمين الأفكار، كما لا يَنْأَوْن عن تَخْريب التعليم، وتسميم وتشويه وتشويش عقول أجيالنا، وأبنائنا الناشئة، وتَحْطيم معنويَّاتِهم، وزَرْع عُقَد النَّقص فيهم، وزعزعة مبادئهم وثقتِهم بالنَّفس والأُسْرة والمجتمع، وسَلْخهم عن أصالتنا الدينيَّة والحضارية، والتاريخية والفكرية، فهُم يستهدفون الْهُويَّة الحقيقية للشَّباب؛ ليُخضعوا لهم الأجيال القادمة التي ستنسى هُويتها وتاريخَها ودينها.

 

إنَّ ما يفعلون لن يكتمل إلا بالأعمال المدعوَّة زورًا بالفنِّية، والَّتي لا تَهْدف إلا إلى نَشْر الفساد الأخلاقي، وإفساد المجتمع، وتعميم ثقافة العُرْي والإباحيَّة، والشُّذوذ والخيانة، تحت ستارٍ من حرية الرَّأي والتعبير والفِكْر، وغطاءٍ ثقافِيٍّ عميل من أصحاب الأقلام المسمومة التي تَطْعن في جسد الأُمَّة، والإعلام المضلِّل العميل، الذي ينشر ويَدْعم ويروِّج لهذا الغَثِّ الفاسد المفسد والمهلك!

 

إنَّهم يسلخوننا عن هويتنا:

ما الهُوية إلاَّ إدراكنا الذَّاتي الواعي لماهيَّتِنا، وأسباب وجودنا وتاريخنا؛ لنعرف مَن نكون وماذا نريد، ماذا كُنَّا وماذا أصبحنا، لِنَعرف ماذا سنصير، إنَّها ستعلِّمُنا "الهوية" ماذا نريد أن نكون.

 

هذه الهُوية لا تكتمل ملامِحُها إلاَّ بإدراك مراحل تاريخِنا وتطوُّرِنا المختلفة، ودراسة منحنيات تاريخنا، ومنعطفاته، من نكبات، وسقطات، قبل البطولات والانتصارات؛ حتَّى نعرف متَى نكرِّرُ أخطاء الماضي؟ وماذا سيحدث حين نكرِّرُها.

 

ولكن هذه الهُويَّة: استُهْدِفَت منذ أجيال، منذ العهود الأولى للاستعمار، عندما رَغِب الاستعمارُ في أن يوظِّف إمكاناته لِفَهمنا، ودراسة طبيعتنا وتقييمنا؛ ليعرف ماذا سيقبل عليه عند احتلالنا، وكيف يحوِّر ويغيِّر ويعدِّل ويتلاعَب بشخصياتنا لِنُصبح تابعين له، فبدأ باستعانة المستشرقين في أجيالِهم الأولى بدراستنا ثُم مُحاولات النَّيْل منَّا وتدميرنا.

 

فالمستشرقون من أجيالهم الأخرى، بعد أن انتقلوا من مرحلة الدِّراسة إلى مرحلة الهجوم والاختراق والتشويه والتضليل، مُطْلِقين سهامهم المسمومة إلى قَلْب الأُمَّة، مستهدِفين مثقَّفِيها وعلماءَها، والتطبيق الإسلامي للقانون والحدود لرعاية المجتمع، ويُحاولون سَلْخ المسلمين عن هويتهم التاريخية الحقيقية، وطمْس انتصاراته وملامح بطولاته، وتزويرَ ماضيه، وتشويهَ أحداثِه ودقائقِه، فيتلاعبون بالمناهج الدِّراسية، طامسين قصصَ التَّضحيات والبطولات، مُضَخِّمين الهزائم والهفوات والزَّلات والأخطاء؛ من قبيل تشويه الشَّخصيات، وتزوير الأحداث في ذِهْن المتلقِّي؛ السامع، أو القارئ.

 

فما الهدف؟ ماذا يستهدفون؟ وإلى ماذا يرمون؟

إنَّهم يهدفون إلى سَلْخِنا عن هويتنا الحقيقية، وسلْخِنا عن تاريخنا وعَزْلِنا عن واقعنا وصراعاتِنا وهَدْم وتَهْشيم حضارتنا من الدَّاخل، بردِّهم وإرجاعهم سببَ تَخلُّفِنا إلى "المظاهر الإسلاميَّة"، وليس الإسلام - فهو ضعيفٌ في نُفوسنا - وإنَّما يُحاربون ما تبقَّى من مظاهر تحوَّلَت إلى بعض العادات والتقاليد بدلاً من كونها عباداتٍ وواجبات، إنَّهم يريدون عزْلَنا وقطعنا عن إسلامنا أكثر فأكثر؛ لأنَّه المقوِّم الحقيقي لنا، ومَصْدر القوَّة الرافضة لِمَظاهر التبعيَّة للغرب والمستعمر.

 

إنَّهم يعرفون أن الإسلام يغرس ويُرَبِّي وينمِّي روح التحدِّي والمنافسة، ويزرع أملَ النَّصْر والتفوُّق، فهم يُدَمِّرون النماذج والمثُل، بإعدام تاريخِنا وتشويهه وتضليله واستبدالِهم به تاريخًا مزوَّرًا مدسوسًا مصنَّعًا في الغرب؛ لإحباطنا عن استعادته، وربطنا وإخضاعنا بِهم.

 

إنهم يرمون إلى تدمير أخلاق الإسلام وآدابه، واجتماعيَّاته، وحُدوده وقوانينه وعباداته، بتنفير الفرد والمُجتمع منها؛ لِيَسهل عزْلُها عن أرواح الناس، وقَتْلِها تطبيقًا وفكرًا وعبادة.

 

فهل الإسلام فعلاً هو المعوِّق للتقدُّم والحضارة والرُّقي؟ كما يدَّعون؟

لا؛ فشَواهد التاريخ تشهد بكذبِهم، وتفضح زورَهم، وتكشف عمالتهم، وتصيح بخيانتهم!

________________________________________________
الكاتب: د. حمزة عماد الدين موسى

  • 4
  • 1
  • 407

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً