كأنني أكلت!

منذ 2008-06-15

ثم ابتسمت أملُ ابتسامة أشعلت سراج الأمل في القلوب.. قالت: "كأنني أكلت يا شيخ.. كأنني أكلت!"


رائحة البخور تعطِّر ذلك المسجد الصغير.. المتنفِّلون بين قانتٍ وراكعٍ وساجدٍ.. حلقةٌ صغيرةٌ في زاوية المسجد يجلس فيها شيخٌ حوله عدد من الأطفال.. تسمع أصواتهم العذبة وهم يرددون وراءه: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: 6] بلغتهم العربية المتكسرة.. ثم وهم يختمون سورة الفاتحة: {وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7].

ترى البسمة على وجوههم البيضاء المشربة بحمرة..

ترى السعادة البريئة من أولاد يرتدي كل منهم قميصًا عربيًّا، وتزين رأسه قلنسوة بيضاء، قد تبدو غريبة هناك.. في تركيا!

والبنات يرتدين حجابًا صغيرًا.. قد يبدو لأول وهلة متناقضًا مع ملابسهن القصيرة نوعًا ما.. ولكنك سرعان ما ترتسم البسمة على شفتيك متى تذكرت أنهن بين الرابعة والخامسة من العمر..

تستنشق الهواء.. ما أجمله من جو.. وما أروعها من روحانيات..

تُلقي بسمعك لهذه الزهور بعد أن أتم معهم شيخهم سورة الفاتحة.. يقول أحدهم بلهفة: "من سيأخذ القرش اليوم يا شيخ؟".

تبسم الشيخ وقال: "أفضل من حفظ اليوم هو....".

أرهف الأطفال أسماعهم مشتاقين لمعرفة الفائز بقرش اليوم.. اتسعت ابتسامة الشيخ ثم سألهم: "لو أخذ كل واحد منكم القرش، ماذا سيفعل به؟"

- سأشتري لعبة..
- وأنا سأشتري بالونة..
- أما أنا فسأدخره للعيد..

- "وأنتِ يا أمل؟"

وجه سؤاله لأمل التي لم تشارك في الجواب.. فابتسمت في استحياء طفولي وقالت: "سأشتري به حلوى يا شيخ!".

نظر إليهم الشيخ ثم قال لهم: "قبل أن تعلموا من الفائز بالقرش اليوم سأقص عليكم قصة.. أتدرون يا أحبابي ثواب بناء المساجد؟"

سكت هنيهة، ثم استطرد قائلاً: "من بنى مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة، وكذلك من بنى مسجدًا فله ثواب كل من عبد الله فيه.. انظروا هذا الذي يصلي هناك.. من بنى هذا المسجد ينال مثل ثواب ذلك المصلي الآن.. أرأيتم هذا الشيخ الكبير الذي يقرأ في المصحف عند السارية هناك.. من بنى هذا المسجد فله مثل ثوابه..".

قاطعه أحد الأولاد قائلاً: "ونحن أيضًا يا شيخ؟ هل ينال مثل ثواب مدارستنا للقرآن؟".

أومأ الشيخ برأسه: "نعم يا بنيَّ.. كل حرف تقرؤه ينال مثل ثوابه.. وإذا قرأت سورة الفاتحة ـ التي أتممتَ حفظها اليوم ـ في الصلاة حتى تكبر ينال هو مثل ثوابك.. ثم تعلِّمها أنت لأبنائك فينال مثل ثوابهم".

رفعت إحدى البنات حاجبيها الصغيرين باستغرا ، وقالت: "هذا كثير جدًّا".

تبسم الشيخ وقال: "نعم.. ثواب لا يمكن أن نحصيه بحال.. ولكن أتدرون قصة الرجل الذي بنى مسجدنا هذا الذي نجلس فيه؟"

نطقوا في صوت واحد: "لا يا شيخ.. ما هي قصته؟"

اعتدل الشيخ في جلسته، وبدأ يقص عليهم:
- منذ زمن كان يعيش هنا في منطقة الفاتح بتركيا رجل ورع اسمه خير الدين أفندي.. لم يكن من العلماء أو الدعاة.. وإنما كان رجلاً عاديًّا.. ولكن كان يحب الدين ويحب الخير.. وكان يأمل دائمًا أن يبني مسجدًا.. ولكنه لم يكن غنيًّا..

لم ييأس أو يتكاسل.. كان يخرج إلى السوق فإذا نظر إلى فاكهة واشتهاها أخرج من جيبه مالاً، ووضعه في صندوق في يده، وقال: كأنني أكلت!

وإذا مر بجازر ورأى اللحم واشتهاه أخرج من جيبه ووضع في الصندوق الذي في يده، وقال: كأنني أكلت!

ظل هكذا يجمع في هذا الصندوق ويقول: كأنني أكلت..

ما تضوَّر جوعًا ولا مات فقرًا..

حتى جاء يوم فتْح الصندوق.. فتَح الصندوق ليجد أن تكلفة بناء المسجد قد اكتملت.. بنى مسجدًا صغيرًا في محلته.. ومات هذا الرجل الصالح حامدًا ربه على أن وفقه لهذه الطاعة..

وكان أهل الحي على علم بقصة هذا الرجل الصالح.. كانوا يعرفون قصة السوق وقصة (كأنني أكلت) فسموا المسجد: (كأنني أكلت) أو (صانكي يدم) بالتركية.. وهو المسجد الذي نحن فيه الآن.. نتدارس فيه من كتاب الله فيناله من الأجر مثلنا.. ويصلي فيه الناس فيناله من الأجر مثلهم.. كل هذا لأنه ضحَّى بلذة لحظات وقال: كأنني أكلت..

سكت الشيخ وهو يراقب أعين تلك الزهور البريئة وهي محدقة به، ثم قال: "انتهت القصة.. والآن القرش لأفضل من حفظ اليوم.. من تخمنون أن يكون هو؟"

قال أحد الأولاد: "من يا شيخ؟"

قال وهو يشير إلى أمل: "أمل.. قرش اليوم من نصيب أمل.."

نظر الأطفال إلى أمل التي تناولت القرش في يدها الصغيرة.. وكل منهم يود أن لو كان صاحب القرش ليحقق به آماله الصغيرة..

نظر الشيخ إلى أمل وقال لها: "ماذا ستفعلين بالقرش يا أمل؟"

أطرقت أمل ثم قالت: "لا شيء يا شيخ!"

بدت علامات الاستغراب على وجه الشيخ.. قال:" لماذا؟ ألن تشتري به حلوى كما كنت تقولين؟"

قالت أمل: "لا يا شيخ.. سأدخره لأبني مسجدًا.."

ثم ابتسمت أملُ ابتسامة أشعلت سراج الأمل في القلوب.. قالت: "كأنني أكلت يا شيخ.. كأنني أكلت!"

********************
وبعد القصة:
ما زال هذا المسجد شامخًا في منطقة الفاتح، وقد ذكر قصته أورخان محمد علي في كتابه (من روائع التاريخ العثماني)..

لله درك أيها الفقير المعدم.. يا من ضحيت بلذة عاجلة.. لتشق في صحيفة أعمالك نهرًا من أنهار الأجر.. لا يتوقف بإذن الله.. لله درك!
أبو الفرج المصري

المصدر:
http://aboelfarag.maktoobblog.com/








المصدر: طريق الاسلام
  • 11
  • 0
  • 9,937
  • محمود العدوى

      منذ
    [[أعجبني:]] أعجبتنى بشده تلك القصه البسيطه المعبره وللقائمين على هذا الموضوع جزيل الاجر والثواب من الله [[لم يعجبني:]] لم يعجبنى حالى حيث كلما إشتهيت شيئا شريته
  • ابو عبد الرحمن

      منذ
    [[أعجبني:]] جزاكم الله كل خير طلب صغييييييييييييييييييييير من فريق طريق الاسلام ,,,,,,,ان اكون كاتبا ضمن هذه الاسرة,,,,,,,
  • ابو عبد الرحمان

      منذ
    [[أعجبني:]] السلام عليكم اخوتي انا ارسلت لكم رأي و لم تعرضوه فارجو منكم عرضه بارك الله فيكم و السلام عليكم
  • ابو عبد الرحمان

      منذ
    [[أعجبني:]] السلام عليكم اخوتي في الله هكذا يجب ان يكون تفكير المسلم العاقل،فهذا الرجل فضل الاخرة على شهوات الدنيا،و اطلب من كل من يقرأ رسالتي هذه ان يسير على خطى هذا الرجل الذي نحسبه ان شاء الله صالحا و اسأل الله جل و علا ان لا يجعلنا من الذين يبيعون اخرتهم بدنياهم،لاحظوا اخوتي رجل حرم نفسه من عدة اشياء لكن باذن الله سيحصل على خير منها في الجنة ، و اسأل الله ان يلاقينا معه بجوار حبيبنا محمد صلى الله عليه و سلم في الجنة،فهو ولي ذلك و القادر عليه.
  • سنبلة

      منذ
    [[أعجبني:]] مقال أكثر من رائع و أثر بي جدا طوبى لمثل هذه القلوب و هذا الطموح العالي
  • العبدلى

      منذ
    [[أعجبني:]] والله قصه جميله وحنونه ووصف ممتاز كانك ترى المسجدوحلقه القرآن والاطفال يجلسون مع الشيخ شكر خاص لفريق طريق الاسلام وجزاكم الله خيرا وجعل هذا العمل فى ميزان حسناتكم

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً