سورة الرعد - تفسير السعدي



" المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون "

يخبر تعالى: أن هذا القرآن, هو آيات الكتاب الدالة, على كل ما يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه, وأن الذي أنزل إلى الرسول من ربه, هو الحق المبين.
لأن إخباره صدق, وأوامره, ونواهيه, عدل, مؤيدة بالأدلة والبراهين القاطعة.
فمن أقبل عليه, وعلى علمه, كان من أهل العلم بالحق, الذي يوجب لهم علمهم به, العمل بما أوجب الله.
" وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ " بهذا القرآن, إما جهلا, وإعراضا عنه, وعدم اهتمام به, وإما عنادا وظلما.
فلذلك أكثر الناس, غير منتفعين به, لعدم السبب الموجب للانتفاع.

" الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون "

يخبر تعالى عن انفراده بالخلق والتدبير, والعظمة والسلطان, الدال على أنه وحده المعبود, الذي لا تنبغي العبادة إلا له فقال: " اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ " على عظمها واتساعها, بقدرته العظيمة.
" بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا " أي ليس لها عمد من تحتها, فإنه لو كان لها عمد, لرأيتموها.
" ثُمَّ " بعد ما خلق السماوات والأرض " اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ " العظيم الذي هو أعلى المخلوقات, استواء يليق بجلاله, ويناسب كماله.
" وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ " لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهم.
" كُلِّ " من الشمس والقمر " يَجْرِي " بتدبير العزيز العليم.
" إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى " بسير منتظم, لا يفتران, ولا ينيان, حتى يجيء الأجل المسمى وهو طي الله هذا العالم, ونقلهم إلى الدار الآخرة, التي هي دار القرار.
فعند ذلك يطوي الله السماوات, ويبدلها, ويغير الأرض ويبدلها.
فتكور الشمس والقمر, ويجمع بينهما, فيلقيان في النار, ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة فيتحسر بذلك أشد الحسرة, وليعلم الذين كفروا, أنهم كانوا كاذبين.
وقوله " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ " هذا جمع بين الخلق والأمر.
أي: قد استوى الله العظيم على سرير الملك, يدبر الأمور في العالم العلوي والسفلي.
فيخلق ويرزق, ويغني, ويفقر, ويرفع أقواما, ويضع آخرين, ويعز ويذل, ويخفض ويرفع, ويقيل العثرات, ويفرج الكربات, وينفذ الأقدار في أوقاتها, التي سبق بها علمه, وجرى بها قلمه.
ويرسل ملائكته الكرام, لتدبير ما جعلهم على تدبيره.
وينزل الكتب الإلهية على رسله, ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع, والأوامر والنواهي, ويفصلها غاية التفصيل, ببيانها, وإيضاحها وتمييزها.
" لَعَلَّكُمْ " بسبب ما أخرج لكم من الآيات الأفقية, والآيات القرآنية.
" بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ " فإن كثرة الأدلة وبيانها ووضوحها, من أسباب حصول اليقين, في جميع الأمور الإلهية, خصوصا في العقائد الكبار, كالبعث والنشور والإخراج من القبور.
وأيضا, فقد علم أن الله تعالى, حكيم لا يخلق الخلق سدى, ولا يتركهم عبثا.
فكما أنه أرسل رسله, وأنزل كتبه, لأمر العباد ونهيهم, فلا بد أن ينقلهم إلى دار, يحل فيها جزاؤه, فيجازى المحسنين بأحسن الجزاء, ويجازى المسيئين بإساءتهم.

" وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون "

" وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ " أي: خلقها للعباد, ووسعها, وبارك فيها, ومدهها للعباد, وأودع فيها من مصالحهم ما أودع.
" وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ " أي: جبالا عظاما, لئلا تميد بالخلق.
فإنه لولا الجبال, لمادت بأهلها, لأنها على تيار ماء, لا ثبوت لها, ولا استقرار, إلا بالجبال الرواسي, التي جعلها الله أوتادا لها.
وجعل فيها " وَأَنْهَارًا " , تسقي الآدميين وبهائمهم وحروثهم.
فأخرخ بها من الأشجار والزروع والثمار, خيرا كثيرا ولهذا قال: " وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ " أي: صنفين, مما يحتاج إليه العباد.
" يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ " فتظلم الآفاق, فيسكن كل حيوان إلى مأواه, ويستريحون من التعب والنصب في النهار.
ثم إذا قضوا مأربهم من النوم, غشي النهار الليل, فإذا هم مصبحون ينتشرون في مصالحهم وأعمالهم في النهار.
" ومن رحمته, جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه, وتبتغوا من فضله, ولعلكم تشكرون " .
" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ " على المطالب الإلهية " لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " فيها, وينظرون فيها نظرة اعتبار دالة على أن الذي خلقها ودبرها, وصرفها, هو الله الذي لا إله إلا هو, ولا معبود سواه, وأنه عالم الغيب والشهادة, الرحمن الرحيم, وأنه القادر على كل شيء, الحكيم في كل شيء, المحمود على ما خلقه وأمر به, تبارك وتعالى.

" وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون "

ومن الآيات على كمال قدرته, وبديع صنعته, " وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ " فيها أنواع الأشجار " مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ " وغير ذلك.
والنخيل التي بعضها " صِنْوَانٌ " أي: عدة أشجار في أصل واحد.
" وَغَيْرُ صِنْوَانٍ " بأن كان كل شجرة على حدتها.
والجميع " يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ " وأرضه واحدة " وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ " لونا, وطعما, ونفعا, ولذة.
فهذه أرض طيبة, تنبت الكلأ والعشب الكثير, والأشجار والزروع.
وهذه أرض تلاصقها, لا تنبت كلاء, ولا تمسك ماء.
وهذه تمسك الماء, ولا تنبت الكلأ.
وهذه تنبت الزرع والأشجار, ولا تنبت الكلأ.
وهذه الثمرة حلوة, وهذه مرة, وهذه بين ذلك.
فهل هذا التنوع, في ذاتها وطبيعتها؟ أم ذلك تقدير العزيز الرحيم؟ " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " أي: لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم, وتقودهم إلى ما يرشدون به ويعقلون عن الله, وصاياه وأوامره ونواهيه.
وأما أهل الإعراض, وأهل البلادة, فهم في ظلماتهم يعمهون, وفي غيرهم يترددون.
لا يهتدون إلى ربهم سبيلا, ولا يعون له قيلا.

" وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "

يحتمل أن معنى قوله " وَإِنْ تَعْجَبْ " من عظمة الله تعالى, وكثرة أدلة التوحيد.
فإن العجب - مع هذا - إنكار المكذبين, وتكذيبهم بالبعث.
وقولهم " أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ " أي: هذا بعيد في غاية الامتناع بزعمهم, أنهم بعد ما كانوا ترابا, أن الله يعيدهم.
فإنهم - من جهلهم - قاسوا قدرة الخالق بقدرة المخلوق.
فلما رأوا هذا ممتنعا, في قدرة المخلوق, ظنوا أنه ممتنع على قدرة الخالق.
ونسوا أن الله خلقهم أول مرة, ولم يكونوا شيئا.
ويحتمل أن معناه: وإن تعجب من قولهم وتكذيبهم للبعث, فإن ذلك من العجائب.
فإن الذي توضح له الآيات, ويرى من الأدلة القاطعة على البعث, ما لا يقبل الشك والريب, ثم ينكر ذلك, فإن قوله من العجائب.
ولكن ذلك لا يستغرب على " أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ " وجحدوا وحدانيته, وهي أظهر الأشياء وأجلاها.
" وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ " المانعة لهم من الهدى " فِي أَعْنَاقِهِمْ " حيث دعوا إلى الإيمان, فلم يؤمنوا, وعرض عليهم الهدى فلم يهتدوا.
فقلبت قلوبهم وأفئدتهم, عقوبة على أنهم لم يؤمنوا به أول مرة.
" وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " لا يخرجون منها أبدا.

" ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب "

يخبر تعالى, عن جهل المكذبين لرسوله, المشركين له, الذين وعظوا فلم يتعظوا, وأقيمت عليهم الأدلة, فلم ينقادوا لها.
بل جاهروا بالإنكار, واستدلوا بحلم الله الواحد القهار عنهم, وعدم معاجلتهم بذنوبهم, أنهم على حق, وجعلوا يتعجلون الرسول بالعذاب, ويقول قائلهم: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك, فأمطر علينا حجارة من السماء, أو ائتنا بعذاب أليم " .
والحال أنه " وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ " أي: وقائع الله وأيامه في الأمم المكذبين, أفلا يتفكرون في حالهم, ويتركون جهلهم.
" وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ " أي: لا يزال خيره إليهم, وإحسانه, وبره, وعفوه نازلا إلى العباد.
وهم لا يزال شركهم, وعصيانهم إليه صاعدا.
يعصونه فيدعوهم إلى بابه, ويجرمون, فلا يحرمهم خيره وإحسانه.
فإن تابوا إليه, فهو حبيبهم, لأنه يحب التوابين, ويحب المتطهرين وإن لم يتوبوا, فهو طبيبهم, يبتليهم بالمصائب, ليطهرهم من المعايب " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا, إنه هو الغفور الرحيم " .
" وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ " على من لم يزل مصرا على الذنوب, قد أبى التوبة والاستغفار والالتجاء إلى العزيز الغفار.
فليحذر العباد عقوباته بأهل الجرائم, فإن أخذه أليم شديد.

" ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد "

أي: ويقترح الكفار عليك من الآيات, التي يعينون ويقولون: " لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ " ويجعلون هذا القول منهم.
عذرا لهم في عدم الإجابة إلى الرسول.
والحال, أنه منذر, ليس له من الأمر شيء, والله هو الذي ينزل الآيات.
وقد أيده بالأدلة البينات, التي لا تخفى على أولي الألباب, وبها يهتدي من قصده الحق.
وأما الكافر, الذي - من ظلمه وجهله - يقترح على الله الآيات, فهذا اقتراح منه, باطل وكذب وافتراء.
فإنه لو جاءته أي آية كانت, لم يؤمن ولم ينقد, لأنه لم يمتنع من الإيمان, لعدم ما يدله على صحته, وإنما ذلك, لهوى نفسه, واتباع شهوته.
" وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ " أي: داع يدعو إلى الهدى, من الرسل وأتباعهم.
ومعهم من الأدلة والبراهين, ما يدل على صحة ما معهم من الهدى.

" الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار "

يخبر تعالى, بعموم علمه, وسعة اطلاعه, وإحاطته بكل شيء فقال: " اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى " من بني آدم وغيرهم.
" وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ " أي: تنقص مما فيها, إما أن يهلك الحمل, أو يتضاءل أو يضمحل.
" وَمَا تَزْدَادُ " الأرحام وتكبر الأجنة التي فيها.
" وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ " لا يتقدم عليه ولا يتأخر, ولا يزيد ولا ينقص إلا بما تقتضيه حكمته وعلمه.

" عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال "

فإنه " عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ " في ذاته, وأسمائه, وصفاته " الْمُتَعَالِ " على جميع خلقه, بذاته وقدرته, وقهره.

" سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار "

" سَوَاءٌ مِنْكُمْ " في علمه وسمعه, وقهره.
" مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ " أي: مستقر بمكان خفي فيه.
" وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ " أي: داخل سربه في النهار, والسرب هو: ما يستخفى فيه الإنسان, إما جوف بيته, أو غار, أو مغارة, أو نحو ذلك.

" له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال "

" لَهُ " أي للإنسان " مُعَقِّبَاتٌ " من الملائكة, يتعاقبون في الليل والنهار.
" مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ " أي: يحفظون بدنه وروحه, من كل من يريده بسوء, ويحفظون عليه أعماله, وهم ملازمون له دائما.
فكما أن علم الله محيط به, فالله قد أرسل هؤلاء الحفظة على العباد, بحيث لا تخفى أحوالهم ولا أعمالهم, ولا ينسى منها شيئا.
" إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ " من النعمة والإحسان, ورغد العيش " حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر, ومن الطاعة إلى المعصية.
أو من شكر نعم الله إلى البطر بها, فيسلبهم الله إياها عند ذلك.
وكذلك إذا غير العباد, ما بأنفسهم من المعصية, فانتقلوا إلى طاعة الله, غير الله عليهم, ما كانوا فيه من الشقاء, إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة.
" وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا " أي: عذابا وشدة, وأمرا يكرهونه, فإن إرادته, لا بد أن تنفذ فيهم.
فـإنه " فَلَا مَرَدَّ لَهُ " ولا أحد يمنعهم منه.
" وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ " يتولى أمورهم, فيجلب لهم المحبوب, ويدفع عنهم المكروه.
فليحذروا من الإقامة على ما يكره الله, خشية أن يحل بهم من العقاب ما لا يرد عن القوم المجرمين.

" هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال "

يقول تعالى: " هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا " أي: يخاف منه الصواعق والهدم, وأنواع الضرر, على بعض الثمار ونحوها, ويطمع في خيره ونفعه.
" وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ " بالمطر الغزير, الذي به نفع العباد والبلاد.

" ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال "

" وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ " وهو الصوت, الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد, فهو خاضع لربه, مسبح بحمده.
" و " تسبح " الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ " أي: خشعا لربهم, خائفين من سطوته.
" وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ " وهي هذه النار, التي تخرج من السحاب.
" فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ " من عباده, بحسب ما شاءه وأراده " وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ " أي: شديد الحول والقوة, فلا يريد شيئا إلا فعله, ولا يتعاصى عليه شيء, ولا يفوته هارب

" له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال "

فإذا كان هو وحده, الذي يسوق للعباد الأمطار والسحب, التي فيها مادة أرزاقهم, وهو الذي يدبر الأمور, وتخضع له المخلوقات العظام, التي يخاف منها, وتزعج العباد, وهو شديد القوة - فهو الذي يستحق أن يعبد وحده ولا شريك له.
ولهذا قال: " لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ " إلى " إِلَّا فِي ضَلَالٍ " .
" لَهُ " أي: لله وحده " دَعْوَةُ الْحَقِّ " وهي: عبادته وحده لا شريك له وإخلاص دعاء العبادة, ودعاء المسألة له تعالى.
أي: هو الذي ينبغي أن يصرف له الدعاء, والخوف, والرجاء, والحب, والرغبة, والرهبة, والإنابة, لأن ألوهيته, هي الحق, وألوهية غيره, باطلة.
" وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ " من الأوثان, والأنداد, التي جعلوها شركاء لله.
" لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ " أي: لمن يدعوها ويعبدها, بشيء قليل ولا كثير, لا من أمور الدنيا, ولا من أمور الآخرة.
" إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ " الذي لا تناله كفاه لبعده.
" لِيَبْلُغَ " ببسط كفيه إلى الماء " فَاهُ " , فإنه عطشان, ومن شدة عطشه, يتناول بيده ويبسطها إلى الماء الممتنع وصولها إليه, فلا يصل إليه.
كذلك الكفار, الذين يدعون مع الله آلهة, لا يستجيبون لهم بشيء, ولا ينفعونهم في أشد الأوقات إليهم حاجة, لأنهم فقراء, كما أن من دعوهم فقراء, لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وما لهم فيها من شرك, وما له منهم من ظهير.
" وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ " لبطلان ما يدعون من دون الله.
فبطلت عبادتهم ودعاؤهم, لأن الوسيلة تبطل ببطلان غايتها.
ولما كان الله تعالى, هو الملك الحق المبين, كانت عبادته حقا, متصلة النفع بصاحبها في الدنيا الآخرة.
وتشبيه دعاء الكافرين لغير الله, بالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه من أحسن الأمثلة.
فإن ذلك تشبيه بأمر محال, فكما أن هذا محال, فالمشبه به محال.
والتعلق على المحال, من أبلغ ما يكون في نفي الشيء كما قال تعالى " إن الذين كفروا وكذبوا بآياتنا لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " .

" ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال "

أي: جميع ما احتوت عليه السماوات والأرض كلها, خاضعة لربها, تسجد له " طَوْعًا وَكَرْهًا " .
فالطوع لمن يأتي بالسجود والخضوع, اختيارا, كالمؤمنين.
والكره, لمن يستكبر عن عبادة ربه, وحاله وفطرته, تكذبه في ذلك.
" وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ " أي: وتسجد له ظلال المخلوقات, أول النهار وآخره, وسجود كل شيء,, بحسب حاله كما قال تعالى: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم "

" قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار "

فإذا كانت المخلوقات كلها تسجد لربها طوعا وكرها, كان هو الإله حقا, المعبود المحمود حقا, وإلاهية غيره باطلة.
ولهذا ذكر بطلانها وبرهن عليه بقوله: " قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ " إلى " الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ " .
أي: قل لهؤلاء المشركين به, أوثانا وأندادا, يحبونها كما يحبون الله, ويبذلون لها أنواع التقربات والعبادات: أفتاهت عقولكم, حتى اتخذتم من دونه أولياء, تتولونهم بالعبادة, وليسوا بأهل لذلك؟ فإنهم " لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا " , وتتركون ولاية من هو كامل الأسماء والصفات, المالك للأحياء والأموات, الذي بيده الخلق والتدبير, والنفع والضر؟ فما تستوي عبادة الله وحده, وعبادة المشركين به.
" قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ " ؟ فإن كان عندهم شك واشتباه, وجعلوا له شركاء, زعموا أنهم خلقوا كخلقه, وفعلوا كفعله, فأزل عنهم هذا الاشتباه واللبس, بالبرهان الدال على تفرد الإله بالوحدانية.
فقل لهم: " اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ " فإنه من المحال أن يخلق شيء من الأشياء نفسه.
ومن المحال أيضا, أن يوجد من دون خالق.
فتعين أن لها إلها خالقا, لا شريك له في خلقه, لأنه الواحد القهار.
فإنه لا توجد الوحدة والقهر, إلا لله وحده.
فالمخلوقات وكل مخلوق, فوقه مخلوق يقهره ثم فوق ذلك القاهر, قاهر أعلى منه, حتى ينتهي القهر للواحد القهار.
فالقهر والتوحيد, متلازمان, متعينان لله وحده.
فتبين بالدليل العقلي القاهر, أن ما يدعى من دون الله, ليس له شيء من خلق المخلوقات, وبذلك كانت عبادته باطلة.

" أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال "

شبه تعالى الهدى, الذي أنزل على رسوله لحياة القلوب والأرواح, بالماء الذي أنزله لحياة الأشباح.
وشبه ما في الهدى من النفع العام الكثير, الذي يضطر إليه العباد, بما في المطر من النفع العام الضروري.
وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها, بالأودية التي تسيل فيها السيول.
فواد كبير, يسع ماء كثيرا, كقلب كبير, يسع علما كثيرا.
وواد صغير, يأخذ ماء قليلا,, كقلب صغير, يسع علما قليلا, وهكذا.
وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات, عند وصول الحق إليها, بالزبد الذي يعلو الماء, ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها, وأنها لا تزال فوق الماء طافية مكدرة له, حتى تذهب وتضمحل, ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي, والحلية الخالصة.
كذلك الشبهات والشهوات, لا يزال القلب يكرهها, ويجاهدها بالبراهين الصادقة, والإرادات الجازمة, حتى تذهب وتضمحل, ويبقى القلب خالصا صافيا, ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق, وإيثاره, والرغبة فيه.
فالباطل يذهب ويمحقه الحق " إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " .
وقال هنا: " كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ " ليتضح الحق من الباطل والهدى والضلال.

" للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد "

لما بين تعالى, الحق من الباطل, ذكر أن الناس على قسمين: مستجيب لربه, فذكر ثوابه, وغير مستجيب, فذكر عقابه فقال: " لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ " أي: انقادت قلوبهم للعلم والإيمان, وجوارحهم للأمر والنهي, وصاروا موافقين لربهم فيما يريده منهم.
فلهم " الْحُسْنَى " أي: الحالة الحسنة, والثواب الحسن.
فلهم من الصفات أجلها, ومن المناقب أفضلها.
ومن الثواب العاجل والآجل, ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
" وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ " بعد ما ضرب لهم الأمثال, وبين لهم الحق, لهم الحالة غير الحسنة.
و " لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا " من ذهب وفضة وغيرها.
" وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ " من عذاب يوم القيامة, ما تقبل منهم, وأنى لهم ذلك؟!!.
" أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ " , وهو الحساب الذي يأتي على كل ما أسلفوه, من عمل سيئ, وما ضيعوه من حقوق عباده قد كتب ذلك, وسطر عليهم, وقالوا: " يا ويلتنا مال هذا الكتاب, لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها, ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا " .
وبعد هذا الحساب السيئ, " وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ " الجامعة لكل عذاب, من الجوع الشديد, والعطش الوجيع, والنار الحامية, والزقوم, والزمهرير, والضريع, وجميع ما ذكره الله من أصناف العذاب.
" وَبِئْسَ الْمِهَادُ " أي: المقر, والمسكن, مسكنهم.

" أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب "

يقول تعالى: مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهم: " أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ " ففهم ذلك, وعمل به.
" كَمَنْ هُوَ أَعْمَى " لا يعلم الحق, ولا يعمل به, فبينهما من الفرق, كما بين السماء والأرض.
فحقيق بالعبد, أن يتذكر ويتفكر, أي الفريقين, أحسن حالا, وخير مآلا, فيؤثر طريقها, ويسلك خلف فريقها.
ولكن ما كل أحد, يتذكر ما ينفعه ويضره.
" إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ " أي: أولو العقول الرزينة, والآراء الكاملة, الذين هم, لب العالم, وصفوة بني آدم.
فإن سألت عن وصفهم, فلا تجد أحسن من وصف الله لهم بقوله:

" الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق "

" الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ " الذي عهده إليهم, والذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة, فالوفاء بها, توفيتها حقها, من التنمية لها, والنصح فيها.
وتمام الوفاء بها, أنهم " وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ " أي: العهد الذي عاهدوا الله عليه.
فدخل في ذلك, جميع المواثيق والعهود, والأيمان والنذور, التي يعقدها العباد.
فلا يكون العبد من أولي الألباب, الذين لهم الثواب العظيم, إلا بأدائها كاملة, وعدم نقضها وبخسها.

" والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب "

" وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ " وهذا عام في كل ما أمر الله بوصله, من الإيمان به, وبرسوله, ومحبته, ومحبة رسوله, والانقياد لعبادته وحده لا شريك له, ولطاعة رسوله.
ويصلون آباءهم وأمهاتهم, ببرهم بالقول والفعل, وعدم عقوقهم.
ويصلون الأقارب والأرحام, بالإحسان إليهم, قولا وفعلا.
ويصلون ما بينهم وبين الأزواج, والأصحاب, والمماليك, بأداء حقهم, كاملا موفرا, من الحقوق الدينية والدنيوية.
والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به, أن يوصل خشية الله, وخوف يوم الحساب, ولهذا قال: " وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ " أي: يخافونه, فيمنعهم خوفهم منه, ومن القدوم عليه يوم الحساب, أن يتجرأوا على معاصي الله, أو يقصروا في شيء مما أمر الله به, خوفا من العقاب, ورجاء للثواب.

" والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار "

" وَالَّذِينَ صَبَرُوا " علىالمأمورات بامتثالها, وعن المنهيات بالانكفاف عنها, والبعد منها, وعلى أقدار الله المؤلمة, بعدم تسخطها.
ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر " ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ " لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة, فإن هذا هو الصبر النافع, الذي يحبس به العبد نفسه, طلبا لمرضاة ربه, ورجاء للقرب منه.
والحظوة بثوابه, هو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان.
وأما الصبر المشترك, الذي غايته التجلد, ومنتهاه, الفخر, فهذا يصدر من البر والفاجر, والمؤمن والكافر, فليس هو الممدوح, على الحقيقة.
" وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ " بأركانها, وشروطها, ومكملاتها, ظاهرا وباطنا.
" وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً " دخل في ذلك, النفقات الواجبة, كالزكوات, والكفارات, والنفقات المستحبة, وأنهم ينفقون, حيث دعت الحاجة إلى النفقة, سرا وعلانية.
" وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ " أي: من أساء إليهم, بقول أو فعل, لم يقابلوه بفعله, بل قابلوه بالإحسان إليه.
فيعطون من حرمهم, ويعفون عمن ظلمهم, ويصلون من قطعهم, ويحسنون إلى من أساء إليهم.
وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان, فما ظنك بغير المسيء؟! " أُولَئِكَ " الذين وصفت صفاتهم الجليلة, ومناقبهم الجميلة " لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ " .
فسرها بقوله: " جَنَّاتِ عَدْنٍ " أي: إقامة, لا يزولون منها, ولا يبغون عنها حولا, لأنهم يرون فوقها, غاية لما اشتملت عليه من النعيم, والسرور, الذي تنتهي إليه المطالب والغايات.
ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم, أنهم " يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ " من الذكور والإناث وكذلك النظراء والأشباه, والأصحاب, والأحباب, فإنهم من قبيل أزواجهم وذرياتهم.
" وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ " يهنئونهم بالسلامة, وكرامة الله لهم ويقولون: " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " أي: حلت عليكم السلامة والتحية من الله, حصلت لكم.
وذلك متضمن لزوال كل مكروه, ومستلزم لحصول كل محبوب.
" بِمَا صَبَرْتُمْ " أي: بسبب صبركم, وهو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية, والجنان الغالية.
" فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ " فحقيق بمن نصح نفسه, وكان لها عنده قيمة, أن يجاهدها, لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب.
ولعلها تحظى بهذه الدار, التي هي منية النفوس, وسرور لأرواح, الجامعة لجميع اللذات والأفراح.
فلمثلها, فليعمل العاملون, وفيها, فليتنافس المتنافسون.

" والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار "

لما ذكر حال أهل الجنة, ذكر أن أهل النار, بعكس ما وصفهم به فقال عنهم: " الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ " أي: من بعد ما أكده عليهم على أيدي رسله, وغلظ عليهم, فلم يقابلوه بالانقياد والتسليم, بل قابلوه بالإعراض والنقص.
" وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ " فلم يصلوا ما بينهم وبين ربهم بالإيمان والعمل الصالح, ولا وصلوا الأرحام ولا أدوا الحقوق, بل أفسدوا في الأرض, بالكفر والمعاصي, والصد عن سبيل الله, وابتغائها عوجا.
" أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ " أي البعد والذم, من الله وملائكته, وعباده المؤمنين.
" وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ " وهي: الجحيم, بما فيها من العذاب الأليم.

" الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع "

أي: هو وحده, يوسع الرزق ويبسطه على من يشاء, ويقدره ويضيقه على من يشاء.
" وَفَرِحُوا " أي: الكفار " بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا " فرحا, أوجب لهم أن يطمئنوا بها, ويغفلوا عن الآخرة, وذلك لنقصان عقولهم.
" وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ " أي: شيء حقير, يتمتع به قليلا, ويفارق أهله وأصحابه, ويعقبهم ويلا طويلا.

" ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب "

يخبر تعالى, أن الذين كفروا بآيات الله, يتعنتون على رسول الله, ويقترحون ويقولون: " لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ " وبزعمهم أنها لو جاءت لآمنوا, فأجابهم الله بقوله: " قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ " أي: طلب رضوانه.
فليست الهداية والضلال بأيديهم, حتى يجعلوا ذلك متوقفا على الآيات.
ومع ذلك, فهم كاذبون, فلو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى, وحشرنا عليهم كل شيء قبلا, ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله, ولكن أكثرهم يجلهون.
ولا يلزم أن يأتي الرسول, بالآية, التي يعينونها, ويقترحونها, بل إذا جاءهم بآية, وتبين ما جاء به من الحق, كفى ذلك, وحصل المقصود, وكان أنفع لهم من طلبهم الآيات التي يعينونها.
فإنها لو جاءتهم طبق ما اقترحوا, فلم يؤمنوا بها, لعاجلهم العذاب.

" الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب "

ثم ذكر تعالى علامة المؤمنين فقال: " الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ " أي: يزول قلقها واضطرابها, وتحضرها أفراحها ولذاتها.
" أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ " أي: حقيق بها, وحري أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره, فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أحلى, من محبة خالقها, والأنس به ومعرفته.
وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له, يكون ذكرها له.
هذا على القول بأن ذكر الله, هو ذكر العبد لربه, من تسبيح, وتهليل, وتكبير وغير ذلك.
وقيل: إن المراد بذكر الله, كتابه, الذي أنزله, ذكرى للمؤمنين.
فعلى هذا, معنى طمأنينة القلب بذكر الله: أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه, تطمئن لها, فإنها تدل على الحق المبين, المؤيد بالأدلة والبراهين, وبذلك تطمئن القلوب, فإنها لا تطمئن القلوب, إلا باليقين والعلم, وذلك في كتاب الله, مضمون على أتم الوجوه وأكملها.
وأما ما سواه من الكتب, التي لا ترجع إليه, فلا تطمئن بها, بل لا تزال قلقة من تعارض الأدلة, وتضاد الأحكام.

" الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب "

" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " وهذا إنما يعرفه من خبر كتاب الله, وتدبره, وتدبر غيره من أنواع العلوم, فإنه يجد بينها وبينه فرقا عظيما.
ثم قال تعالى: " الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " أي: آمنوا بقلوبهم بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وصدقوا هذا الإيمان, بالأعمال الصالحة, أعمال القلوب, كمحبة الله, وخشيته.
ورجائه, وأعمال الجوارح, كالصلاة ونحوها.
" طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ " أي: لهم حالة طيبة, ومرجع حسن.
وذلك بما ينالون, من رضوان الله وكرامته, في الدنيا والآخرة, وأن لهم كمال الراحة, وتمام الطمأنينة.
ومن جملة ذلك, شجرة طوبى, التي في الجنة, التي يسير الراكب في ظلها, مائة عام ما يقطعها, كما وردت بها الأحاديث الصحيحة.

" كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب "

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ " إلى قومك تدعو إلى الهدى.
" فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ " أرسلنا فيهم رسلنا.
فلست ببدع من الرسل, حتى يستنكروا رسالتك.
ولست تقول من تلقاء نفسك.
بل تتلو عليهم آيات الله, التي أوحاها الله إليك, التي تطهر القلوب, وتزكي النفوس.
والحال أن قومك, يكفرون بالرحمن, فلم يقابلوا رحمته وإحسانه - التي أعظمها أن أرسلناك إليهم رسولا, وأنزلنا عليك كتابا - بالقبول والشكر, بل قابلوها بالإنكار والرد.
فلا يعتبرون بمن خلا من قبلهم, من القرون المكذبة, كيف أخذهم الله بذنوبهم.
" قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " وهذا متضمن التوحيدين, توحيد الألوهية, وتوحيد الربوبية.
فهو ربي, الذي رباني بنعمه, منذ أوجدني, وهو إلهي الذي " عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ " في جميع أموري " وَإِلَيْهِ أُنِيبُ " أي: أرجع في جميع عباداتي, وفي حاجاتي.

" ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد "

يقول تعالى - مبينا فضل القرآن الكريم على سائر الكتب المنزلة -: " وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا " من الكتب الإلهية " سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ " عن أماكنها " أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ " جنانا وأنهارا " أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى " لكان هذا القرآن.
" بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا " فيأتي بالآيات, التي تقتضيها حكمته.
فما بال المكذبين, يقترحون من الآيات - ما يقترحون؟ فهل لهم ولغيرهم من الأمر شيء؟.
" أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا " فليعلموا أنه قادر على هدايتهم جميعا, ولكن لا يشاء ذلك, بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
" وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا " على كفرهم, لا يعتبرون, ولا يتعظون.
والله تعالى يوالي عليهم القوارع, التي تصيبهم في ديارهم, أو تحل قريبا منها, وهم مصرون على كفرهم " حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ " الذي وعدهم به, لنزول العذاب المتصل, الذي لا يمكن رفعه.
" إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ " وهذا تهديد وتخويف لهم من نزول, ما وعدهم الله به على كفرهم, وعنادهم, وظلمهم.

" ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب "

يقول تعالى لرسوله - مثبتا له, ومسليا - " وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ " فلست أول رسول, كذب وأوذي " فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا " برسلهم, أي: أمهلتهم مدة, حتى ظنوا أنهم غير معذبين.
" ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ " بأنواع العذاب " فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ " كان عقابا شديدا, وعذابا أليما.
فلا يغتر هؤلاء الذين كذبوك, واستهزأوا بك, بإمهالنا فلهم أسوة فيمن قبلهم من الأمم, فليحذروا أن يفعل بهم كما فعل بأولئك.

" أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد "

يقول تعالى: " أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ " بالجزاء العاجل والآجل, بالعدل والقسط, وهو: الله تبارك وتعالى, كمن ليس كذلك؟ ولهذا قال: " وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ " وهو الله الأحد, الفرد, الصمد, الذي لا شريك له, ولا ند ولا نظير.
" قُلْ " لهم, إن كانوا صادقين: " سَمُّوهُمْ " لنعلم حالهم.
" أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ " فإنه إذا كان عالم الغيب والشهادة, وهو لا يعلم له شريكا, علم بذلك, بطلان دعوى الشريك له وأنكم بمنزلة الذي يعلم الله أن له شريكا, وهو لا يعلمه, وهذا أبطل ما يكون, ولهذا قال: " أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ " أي: غاية ما يمكن من دعوى الشريك له تعالى, أنه بظاهر أقوالكم.
وأما في الحقيقة, فلا إله إلا الله, وليس أحد من الخلق, يستحق شيئا من العبادة.
" بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ " الذي مكروه, وهو كفرهم, وشركهم, وتكذيبهم لآيات الله.
" وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ " أي: عن الطريق المستقيمة, الموصلة إلى الله, وإلى دار كرامته.
" وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ " لأنه ليس لأحد من الأمر شيء.

" لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق "

" لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ " من عذاب الدنيا, لشدته ودوامه.
" وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ " يقيهم من عذابه, فعذابه إذا وجهه إليهم, لا مانع منه.

" مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار "

يقول تعالى: " مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ " الذين تركوا ما نهاهم الله عنه, ولم يقصروا فيما أمرهم به, أي صفتها وحقيقتها " تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " أنهار العسل, وأنهار الخمر, وأنهار اللبن, وأنهار الماء التي تجري في غير أخدود.
فتسقى تلك البساتين, والأشجار, فتحمل جميع أنواع الثمار.
" أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا " دائم أيضا.
" تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا " أي: مآلهم وعاقبتهم, التي إليها يصيرون.
" وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ " فكم بين الفريقين من الفرق المبين؟!!

" والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب "

يقول تعالى: " وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ " أي: مننا عليهم به وبمعرفته.
" يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ " فيؤمنون به, ويصدقونه, ويفرحون بموافقة الكتب بعضها لبعض, وتصديق بعضها بعضا, وهذه حال من آمن, من أهل الكتاب.
" وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ " أي: ومن طوائف الكفار المنحرفين عن الحق, من ينكر بعض هذا القرآن, ولا يصدقه.
" فمن اهتدى فلنفسه, ومن ضل فإنما يضل عليها " إنما أنت يا محمد منذر, تدعوا إلى الله.
" قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ " أي: بإخلاص الدين لله وحده.
" إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ " أي: مرجعي الذي أرجع به إليه, فيجازيني بما قمت به من الدعوة, إلى دينه, والقيام بما أمرت به.

" وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق "

أي: ولقد أنزلنا هذا القرآن والكتاب, حكما عربيا, أي: محكما متقنا, بأوضح الألسنة, وأفصح اللغات, لئلا يقع فيه شك واشتباه, وليوجب أن يتبع وحده, ولا يداهن فيه, ولا يتبع ما يضاده ويناقضه, من أهواء الذين لا يعلمون.
ولهذا توعد رسوله - مع أنه معصوم - ليمتن عليه بعصمته, وليكون لأمته أسوة في الأحكام, فقال: " وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ " البين الذي ينهاك عن اتباع أهوائهم.
" مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ " يتولاك فيحصل لك الأمر المحبوب.
" وَلَا وَاقٍ " يقيك من الأمر المكروه.

" ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب "

أي: لست أول رسول أرسل إلى الناس, حتى يستغربوا رسالتك.
" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً " فلا يعيبك أعداؤك, بأن يكون لك أزواج وذرية, كما كان لإخوانك المرسلين.
فلأي شيء يقدحون فيك بذلك؟ وهم يعلمون أن الرسل قبلك كذلك إلا لأجل أغراضهم الفاسدة وأهوائهم.
وإن طلبوا منك آية اقترحوها, فليس لك من الأمر شيء.
" وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ " والله لا يأذن فيها, إلا في وقتها الذي قدره وقضاه.
" لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ " لا يتقدم عليه, ولا يتأخر عنه.
فليس استعجالهم بالآيات أو العذاب, موجبا, لأن يقدم الله ما كتب أنه يؤخر, مع أنه تعالى فعال لما يريد.

" يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب "

" يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ " من الأقدار " وَيُثَبِّتَ " ما يشاء منها, وهذا المحو والتغيير, في غير ما سبق به علمه, وكتبه قلمه, فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير, لأن ذلك محال على الله, أن يقع في علمه نقص, أو خلل, ولهذا قال: " وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ " أي: اللوح المحفوظ, الذي ترجع إليه سائر الأشياء, فهو أصلها, وهي فروع وشعب.
فالتغيير والتبديل, يقع في الفروع والشعب, كأعمال اليوم والليلة, التي تكتبها الملائكة, ويجعل الله لثبوتها أسبابا, ولمحوها أسبابا, لا تتعدى تلك الأسباب, ما رسم في اللوح المحفوظ.
كما جعل الله البر, والصلة, والإحسان, من أسباب طول العمر, وسعة الرزق.
وكما جعل المعاصي, سببا لمحق بركة الرزق والعمر.
وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب, سببا للسلامة.
وجعل التعرض لذلك, سببا للعطب.
فهو الذي يدبر الأمور, بحسب قدرته وإرادته.
وما يدبره منها, لا يخالف ما قد علمه وكتبه, في اللوح المحفوظ.

" وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب "

يقول تعالى, لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تعجل عليهم, بإصابة ما يوعدون من العذاب.
فهم, إن استمروا على طغيانهم وكفرهم, فلا بد أن يصيبهم ما وعدوا به.
" وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ " إياه في الدنيا, فتقر بذلك عينك.
بل هي مبنية على القسط والعدل والحمد فلا يتعقبها أحد, ولا سبيل إلى القدح فيها.
" أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ " قبل إصابتهم, فليس ذلك شغلا لك " فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ " والتبيين للخلق.
" وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ " فنحاسب الخلق على ما قاموا به, بما عليهم, أو ضيعوه, ونثيبهم أو نعاقبهم.

" أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب "

ثم قال - متوعدا للمكذبين - " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا " : قيل بإهلاك المكذبين, واستئصال الظالمين.
وقيل: بفتح بلدان المشركين, ونقصهم في أموالهم وأبدانهم, وقيل غير ذلك من الأقوال.
والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك, أن أراضي هؤلاء المكذبين جعل الله, يفتحها ويجتاحها, ويحل القوارع بأطرافها, تنبيها لهم قبل أن يجتاحهم النقص, ويوقع الله بهم من القوارع, ما لا يرده أحد.
ولهذا قال: " وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ " ويدخل في هذا, حكمه الشرعي, والقدري والجزائي.
فهذه الأحكام, التي يحكم الله فيها, توجد في غاية الحكمة والإتقان, لا خلل فيها ولا نقص.
بل هي مبنية على القسط والعدل والحمد, فلا يتعقبها أحد ولا سبيل إلى القدح فيها.
بخلاف حكم غيره, فإنه قد يوافق الصواب, وقد لا يوافقه.
" وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ " أي: فلا يستعجلوا بالعذاب, فإن كل ما هو آت, فهو قريب.

" وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار "

يقول تعالى: " وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ " برسلهم, وبالحق الذي جاءت به الرسل, فلم يغن عنهم مكرهم, ولم يصنعوا شيئا, فإنهم يحاربون الله ويبارزونه.
" فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا " أي: لا يقدر أحد أن يمكر مكرا إلا بإذنه, وتحت قضائه وقدره.
فإذا كانوا يمكرون بدينه, فإن مكرهم, سيعود عليهم بالخيبة والندم.
فإن الله " يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ " أي: هومها وإراداتها وأعمالها الظاهرة والباطنة.
والمكر, لا بد أن يكون من كسبها, فلا يخفى على الله مكرهم.
فيمتنع أن يمكروا مكرا يضر الحق وأهله, ويفيدهم شيئا.
" وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ " أي: ألهم أو لرسله؟ ومن المعلوم أن العاقبة للمتقين, لا للكفر وأهله.

" ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب "

" وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا " أي: يكذبونك, ويكذبون ما أرسلت به.
" قُلْ " لهم - إن طلبوا على ذلك شهيدا: " كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ " وشهادته بقوله وفعله وإقراره.
أما قوله, فيما أوحاه الله إلى أصدق خلقه, مما يثبت به رسالته.
وأما فعله, فلأن الله تعالى أيد رسوله, ونصره نصرا خارجا عن قدرته وقدرة أصحابه وأتباعه, وهذا شهادة منه له بالفعل والتأييد.
وأما إقراره, فإنه أخبر الرسول عنه, أنه رسول, وأنه أمر الناس باتباعه.
فمن اتبعه, فله رضوان الله وكرامته.
ومن لم يتبعه, فله النار والسخط, وحل له ماله ودمه, والله يقره على ذلك, فلو تقول عليه بعض الأقاويل, لعاجله بالعقوبة.
" وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ " وهذا شامل لكل علماء أهل الكتابين.
فإنهم يشهد منهم للرسول, من آمن, واتبع الحق, فصرح بتلك الشهادة التي عليه.
ومن كتم ذلك, فإخبار الله عنه, أن عنده شهادة, أبلغ من خبره.
ولو لم يكن عنده شهادة, لرد استشهاده بالبرهان.
فسكوته يدل على أن عنده شهادة مكتومة.
وإنما أمر الله باستشهاد أهل الكتاب, لأنهم أهل هذا الشأن.
وكل أمر, إنما يستشهد فيه أهله, ومن هم أعلم به من غيرهم.
بخلاف من هو أجنبي عنه, كالأميين, من مشركي العرب وغيرهم, فلا فائدة في استشهادهم, لعدم خبرتهم ومعرفتهم.

 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً