سورة المدثر - تفسير السعدي



" يا أيها المدثر "

يا أيها المتغطي بثيابه,

" قم فأنذر "

قم من مضجعك, فحذر الناس من عذاب الله,

" وربك فكبر "

وخص ربك وحده بالتعظيم والتوحيد والعبادة,

" وثيابك فطهر "

وطهر ثيابك من النجاسات,

" والرجز فاهجر "

ودم على هجر الأصنام والأوثان وأعمال الشرك كلها, فلا تقربها,

" ولا تمنن تستكثر "

ولا تعط العطية, كي تلتمس أكثر منها,

" ولربك فاصبر "

ولمرضاة ربك فاصبر على الأوامر والنواهي.

" فإذا نقر في الناقور "

فإذا نفخ في " القرن " نفخة البعث والنشور,

" فذلك يومئذ يوم عسير "

فذلك الوقت يومئذ شديد على الكافرين,

" على الكافرين غير يسير "

غير سهل أن يخلصوا مما هم فيه من مناقشة الحساب وغيره من الأعمال.

" ذرني ومن خلقت وحيدا "

دعني- يا محمد- أنا والذي خلقته في بطن أمه وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد,

" وجعلت له مالا ممدودا "

جعلت له مالا مبسوطا واسعا

" وبنين شهودا "

وأولادا حضورا معه في " مكة " لا يغيبون عنه؟

" ومهدت له تمهيدا "

ويسرت له سبل العيش تيسيرا,

" ثم يطمع أن أزيد "

ثم يأمل بعد هذا العطاء أن أزيد له في ماله وولده, وقد كفر بي.

" كلا إنه كان لآياتنا عنيدا "

ليس الأمر كما يزعم هذا الفاجر الأثيم, لا أزيده على ذلك. إنه كان للقرآن وحجج الله على خلقه معاندا مكذبا,

" سأرهقه صعودا "

سأكلفه مشقة من العذاب والإرهاق لا راحة له منها.
(والمراد به الوليد بن المغيرة المعاند للحق المبارز لله ولرسوله بالمحاربة).

" إنه فكر وقدر "

إنه فكر في نفسه, وهيأ ما يقوله من الطعن في محمد والقرآن,

" فقتل كيف قدر "

فقهر وغلب, واستحق بذلك الهلاك, كيف أعد في نفسه هذا الطعن؟

" ثم قتل كيف قدر "

ثم قهر وغلب كذلك, ثم تأمل فيما قدروها من الطعن في القرآن,

" ثم نظر "

ثم قطب وجهه,

" ثم عبس وبسر "

واشتد في العبوس والكلوح لما ضاقت عليه الحيل, ولم يجد مطعنا يطعن به في القرآن

" ثم أدبر واستكبر "

ثم رجع معرضا عن الحق, وتعاظم أن يعترف به,

" فقال إن هذا إلا سحر يؤثر "

فقال عن القرآن: ما هذا الذي يقوله محمد إلا سحر ينقل عن الأولين,

" إن هذا إلا قول البشر "

ما هذا إلا كلام المخلوقين تعلمه محمد منهم, ثم ادعى أنه من عند الله.

" سأصليه سقر "

سأدخله جهنم كي يصلي حرها ويحترق بنارها

" وما أدراك ما سقر "

وما أعلمك أي شيء جهنم؟

" لا تبقي ولا تذر "

لا تبقي لحما ولا تترك عظما إلا أحرقته,

" لواحة للبشر "

مغيرة للبشرة, مسودة للجلود, محرقة لها,

" عليها تسعة عشر "

يلي أمرها ويتسلط على أهلها بالعذاب تسعة عشر ملكا من الزبانية الأشداء

" وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر "

وما جعلنا خزنة النار إلا من الملائكة الغلاظ, وما جعلنا ذلك العدد إلا اختبارا للذين كفروا بالله وليحصل اليقين للذين أعطوا الكتاب من اليهود والنصارى بأن ما جاء في القرآن عن خزنة جهنم إنما هو حق من الله تعالى, حيث, وافق ذلك كتبهم, ويزداد المؤمنون تصديقا بالله ورسوله وعملا بشرعه, ولا يشك في ذلك الذين أعطوا الكتاب من اليهود والنصارى ولا المؤمنون بالله ورسوله.
وليقول الذين في فلوبهم نفاق والكافرون: ما الذي أراده الله بهذا العدد المستغرب بمثل ذلك الذي ذكر يضل الله من أراد إضلاله, ويهدي من أراد هدايته, وما يعلم عدد ملائكة ربك الذين خلقهم إلا الله وحده.
وما النار إلا تذكرة وموعظة للناس.

" كلا والقمر "

ليس الأمر كما ذكروا من التكذيب للرسول فيما جاء به, أقسم الله سبحانه بالقمر

" والليل إذ أدبر "

وبالليل إذ ولى وذهب,

" والصبح إذا أسفر "

وبالصبح إذا أضاء وانكشف.

" إنها لإحدى الكبر "

إن النار لإحدى العظائم.

" نذيرا للبشر "

إنذارا وتخويفا للناس,

" لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر "

لمن أراد منكم أن يتقرب إلى ربه بفعل الطاعات, أو يتأخر بفعل المعاصي.

" كل نفس بما كسبت رهينة "

كل نفس محبوسة بعملها, مرهونة عند الله بكسبها, ولا تفك حتى تؤدي ما عليها من الحقوق والعقوبات,

" إلا أصحاب اليمين "

إلا المسلمين المخلصين أصحاب اليمين الذين فكوا رقابهم بالطاعة,

" في جنات يتساءلون "

هم في جنات لا يدوك وصفها, يسأل بعضهم بعضا

" عن المجرمين "

عن الكافرين الذين أجرموا في حق أنفسهم:

" ما سلككم في سقر "

ما الذي أدخلكم جهنم, وجعلكم تذوقون سعيرها؟

" قالوا لم نك من المصلين "

قال المجرمون: لم نكن من المصلين في الدنيا,

" ولم نك نطعم المسكين "

ولم نكن نتصدق ونحن الفقراء والمساكين,

" وكنا نخوض مع الخائضين "

وكنا نتحدث بالباطل مع أهل الغواية والضلالة,

" وكنا نكذب بيوم الدين "

وكنا نكذب بيوم الحساب والجزاء,

" حتى أتانا اليقين "

حتى جاءنا الموت, ونحن في تلك الضلالات والمنكرات.

" فما تنفعهم شفاعة الشافعين "

فما تنفعهم شفاعة الشافعين جميعا من الملائكة والنبيين وغيرهم; لأن الشفاعة إنما تكون لمن ارتضاه الله, وأذن لشفيعه.

" فما لهم عن التذكرة معرضين "

فما لهؤلاء المشركين عن القرآن وما فيه من المواعظ منصرفين؟

" كأنهم حمر مستنفرة "

كأنهم حمر وحشية شديدة النفار,

" فرت من قسورة "

فرت من أمد كاسر.

" بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة "

بل يطمع كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل الله عليه كتابا من السماء منشورا, كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

" كلا بل لا يخافون الآخرة "

ليس الأمر كما زعموا, بل الحقيقة أنهم لا يخافون الآخرة, ولا يصدقون بالبعث والجزاء.

" كلا إنه تذكرة "

حقا أن القرآن موعظة بليغة كافيه لاتعاظهم,

" فمن شاء ذكره "

فمن أراد الاتعاظ اتعظ بما فيه وانتفع بهداه,

" وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة "

وما يتعظون به إلا أن يشاء الله لهم الهدى.
هو سبحانه آمن لأن يتقي ويطاع, وأهل لأن يغفر لمن آمن به وأطاعه.

 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً