صور مشرقة من ثورة الشام (1) أبو عبيدة الحمصي

منذ 2012-07-28

هذه البطولات التي كتبتها، ليست من بطولات الصحابة، ولا هي من بطولات التابعين، إنما هي بطولات من عصرنا الراهن، أعادت للذاكرة بطولات الأجداد الخالدة، وهي بطولات لا تقل شأناً عن تلك البطولات، وما ذكرتها إلا للتأسي بها...


الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذه صور مشرقة من بطولات ثورة الشام المباركة جمعت خيوطها ومشاهدها مما سمعته أذناي، ورأته عيناي، وبعضها مما كتب على صفحات الشبكة العنكبوتية، وكنت في هذا ناقلاً ومدوناً فحسب!، وتدويني لهذه الصور البطولية ناتج عن شعور بالواجب تجاه الشعب السوري البطل الذي عانى من الظلم والقهر على مدار أربعين سنة خلت.

وقد كتبت هذه القصص بذوب قلب ودموع عين، كيف لا وأنا واحد من أولئك السوريين الذين عانوا ولا يزالون يعانون من ظلم ذلك النظام المجرم. وقديماً قيل:
" ليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى".

وكان الهدف الرئيس من كتابتي لها، أن يتعرف الناس على هذه البطولات، وتكون نبراساً لهم في مقارعة الظلم والطغيان حيثما حلَّ وأينما كان، وذلك استجابة لقوله تعالى: {وَلَا تَرْ‌كَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ‌} [هود:113].

وهذه البطولات التي كتبتها، ليست من بطولات الصحابة، ولا هي من بطولات التابعين، إنما هي بطولات من عصرنا الراهن، أعادت للذاكرة بطولات الأجداد الخالدة، وهي بطولات لا تقل شأناً عن تلك البطولات، وما ذكرتها إلا للتأسي بها، ورحم الله من قال:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح



ولا تظنن -أخي القارئ الكريم- أن بطولات ثوار الشام قد اقتصرت على هذا الحد أو انتهت عند هذه الصور المشرقة، لا وألف لا، فما كتبته لك هو غيض من فيض من بطولات هذا الشعب العظيم المبارك، وما خفي عنا من بطولاته أضعاف أضعاف ما علمناه، ولسوف أوافيك وأوافي أهلنا في الشام -ما استطعت- بكل جديد من هذه البطولات النادرة عبر سلسلة غير متناهية، تمتد إلى ما بعد انتصار الثورة إن شاء الله.

ختاماً: آمل أن أكون قد وفقت في نقل هذه الصور البطولية إلى القراء الكرام، داعياً الله عزَّ وجلَّ أن يجعلها في صحيفتي جهاداً في سبيله يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولعمري فإن الجهاد بالقلم لا يقل شأناً عن الجهاد بالسلاح.


(1 ) أبو عبيدة الحمصي:

إنها الساعة السادسة صباحاً حسب التوقيت المحلي لمدينة حمص، الشمس لا زالت تنشر أشعتها الذهبية على هذه المدينة الجريحة، أصوات الرصاص متقطعة تسمع من هنا وهناك... الشوارع تكاد تكون خالية من المارة، لا شيء يبعث على الارتياح فرائحة الموت تزكم الأنوف، هناك كوة واحدة ينبعث منها الأمل في نفوس الناس، إنها كوة الإيمان بالله العزيز الحميد، فهو وحده القادر على حسم الأمور، ونصر عباده المؤمنين، العالم كله يتفرج... وأهل حمص يستغيثون ولا مجيب، إذاً ليس لهم إلا الله، وها هي ذي حناجرهم تدوي بصوت واحد: مالنا غيرك يا الله، عجِّل نصرك ياالله.


هكذا كانوا يرددون في مظاهراتهم وأهازيجهم الشعبية بألسنتهم، ولكن أعماق قلوبهم تصدق ما تنطق به الألسنة.
لم يعد شبح الموت يخيف أحداً منهم، لقد استوت عندهم الحياة والموت، لقد أصبحوا كالجسد الواحد أمام هذا الطاغوت، ابتعد عنهم الأنا.. وها هم يتقاسمون رغيف الخبز في مشاهد عجيبة عزَّ نظيرها ويضربون أروع الأمثال في الإيثار، وما قصة أبي عبيدة عنا ببعيدة، لقد اعتقل الأمن السوري ابنه عبيدة الذي رباه كما يقول المثل السوري (كل شبر بنذر)، وكان له معه كل يوم قصة وحديث وحنين، تألم وقتها كثيراً، تمنَّى وقتها لو مات عبيدة ولم تقبض عليه قوات أمن هذا النظام المجرم، ذلك لأنه يعلم ما معنى الاعتقال في سجون هذا النظام، بكت والدته وإخوته، كانوا كل يوم يرفعون أكفهم له بالدعاء.

لكن قدر الله كان هو النافذ، لقد قام هذا النظام بتصفيته، شأنه في ذلك شأن كل المعارضين الذين لهم بصمات واضحة في مسيرة الثورة السورية، وسرعان ما ألقي به مع عدد من رفاقه في ثلاجة الموتى في المشفى الوطني بحمص، كان أبو عبيدة وقتها ينتظر ارتفاع الشمس قدر رمح ليصلي الضحى يوم قُرع باب داره، انتابه شعور من الفرح في البداية، قال في نفسه: لعله عبيدة قد أُفرج عنه، لكن شعوراً آخر انقبضت له نفسه، وعبس وجهه سرعان ما تسلل إلى أعماقه، لا شك أنهم أزلام النظام، تماسك قليلاً ثم صاح:
- من الطارق.
- افتح... افتح.


علم أنهم رجال الأمن، لكن ماذا يعمل ؟ إنه إذا لم يفتح بسرعة فقد يفتح الباب بالرصاص.
فتح الباب قائلاً:
- خير إن شاء الله.
- أنت أبو عبيدة؟
- نعم، أنا هو.
- ابنك عبيدة في المشفى الوطني، اذهب فخذه وواره التراب دون أن تُعلم أحداً، وإياك إياك أن تقيم له مأتماً، أو تُخرج له جنازة يشارك فيها الكثيرون.
تركوه وهم يقهقهون، فأغلق الباب وأخذ يتمتم: إنا لله وإنا إليه راجعون... اللهم أجرني في مصيبتي.

ذرف دموعاً حرّى، وذرفت أم عبيدة وإخوانه دموعاً أشد حرارة!، قال في نفسه: لن يحلموا بتنفيذ ما طلبوه مني... سأجعل له جنازة يشارك فيها جميع أحرار حمص.
انطلق مسرعاً بسيارته إلى المشفى الوطني، سأل عن ثلاجة الموتى فَذُل عليها، وجد لفيفاً من الناس هناك كل يبحث عن فقيده، ليس هناك ما يدل على أن الفقيد هو ابن فلان أو فلان... قال في نفسه: فوضى النظام وصلت إلى هذا الحد. إنهم يقولون لك: تعرَّفْ على ميتك وخذه، وقف في زاوية مهملة من زوايا ذلك المكان ينتظر.


لقد أنساه هول المنظر شيئاً من أساه، كان يقول في نفسه: كلنا في الهمِّ شرق!، ابتعدت به الذاكرة قليلاً... أخذ يعيد شريط الذكريات عندما كان عبيدة صغيراً، كم من ضحكة طفولية سمعها منه، كم من رحلة رافقه فيها، كم من صلاة كان إلى جانبه... كم... كم ولم يقطع عليه هذا الشريط سوى صوت يقول له: لم يبق غيرُك، هيا تعرَّف على فقيدك وخذه عنا. تقدم بخطى وئيدة إلى الثلاجة، أخذ ينظر بين القتلى علّه يجد عبيدة، لكن عينه وقعت على ما لم يكن بالحسبان.. تأمل المشهد ثانية وثالثة، لقد دُهش مما رآه حتى إنه كاد لا يصدق نفسه، كان عامل الثلاجة يصيح فيه، أما وجدت فقيدك؟ معقول أنك لا تعرف ابنك؟، لقد رأى شابأً في الثلاجة جفنه يطرف أكثر من مرة، فعلم أنه لا يزال حياً، ونظر في الأدراج الأخرى فرأى ابنه وقد ظهرت عليه آثار التعذيب، وقف حائراً لا يدري ماذا يقول! وماذا يعمل! وعامل الثلاجة يقول له: أما وجدت فقيدك؟ أمعقول لا تعرف ابنك؟ قال له: أمهلني بعض الشيْء حتى أتعرف عليه جيداً، ألقى على ابنه نظرة الوداع، ثم قال: هذا ابني وأشار إلى من كانت عينه تطرف، حمله في السيارة التي كانت معه وعاد به إلى البيت، حاول تدفئته بعض الشيْء، فأخذ يتحرك شيئاً فشيئاً، ثم أسرع به إلى أحد أطباء الثورة، حيث قام على علاجه فترة من الزمن، وفي كل يوم كان الشاب يأخذ بالتحسن إلى أن شفاه الله.

فرح أبوعبيدة بشفائه فرحاً لا يوصف... انتابه شعور داخلي بأن عبيدة لا يزال حياً، ثم ما برح أن نسي مصابه الجلل عندما علم أن هذا الشاب قد استبدل باسمه اسم عبيدة، وجاء إليه وهو يناديه: أبي!


عبد الرحمن الشامي - 14/8/1433 هـ
 

  • 0
  • 0
  • 1,277

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً