جمهورية وادي النطرون الشقيقة

أمير سعيد

قبل أيام تفجرت مشكلة كبيرة مع الكشف عن استيلاء رهبان من الأسكندرية على نحو تسعة آلاف فدان من أراضي وادي الريان بالفيوم، وهي منطقة تضم محمية طبيعية ذات طبيعة فريدة..

  • التصنيفات: اليهودية والنصرانية - أحداث عالمية وقضايا سياسية -

من حق أهالي وادي النطرون أن يكون لهم تطلعاتهم في الرفاه والخدمات الملائمة، لكن هل يتعذر أن يحصل هذا دون الاستقلال عن محافظة البحيرة؟! لا أظن، وأعتقد أن البحث في جذور هذا المطلب سيكشف عن أمور مقلقة؛ فالمسألة لا تتعلق بإنشاء محافظة داخلية، ثم هو لا يتعلق بقضية إدارية بحتة، وإنما تمهيد لمشكلة مستقبلية نحن جميعاً في غنى عن تعبيد الطريق لها.

للمنطقة حساسية معروفة، ووجودها على تخوم الأراضي الزراعية وباستقبال الصحراء ما يجعلها مؤهلة لعزل المنطقة عن امتدادها الطبيعي..

تاريخياً كانت المنطقة هذه لها طبيعة إستراتيجية خاصة، كونها تمثل مدخلاً غربياً لنهر النيل حيث يقيم معظم المصريين، لكنها غدت الآن ذات اعتبار خاص لا يتعلق بصد الجيوش البرية الزاحفة في الصحراء، وإنما تتعلق بفكرة تقسيم مصر.

قبل أيام تفجرت مشكلة كبيرة مع الكشف عن استيلاء رهبان من الأسكندرية على نحو تسعة آلاف فدان من أراضي وادي الريان بالفيوم، وهي منطقة تضم محمية طبيعية ذات طبيعة فريدة.. ما بين وادي الريان بالجنوب ووادي النطرون بشماله مساحة كبيرة لكنها ليست عصية على الاتصال الجغرافي لتكوين حيز سكاني واحد إن أريد لها مستقبلاً.

لا أحد يمكنه الآن تجاهل ما يحصل في وادي النطرون من تمدد طائفي واضح على مساحات شاسعة تجسد منطقة قادرة على القيام بذاتها، -على الأقل زراعياً- يرفد ذلك تنامي شعور ديني جارف يتوق إلى إحياء غابة من الأديرة قيل إن المنطقة كانت تضم المئات منها فيما سبق، عندما ساعد الشيعة الإسماعيليون -العبيديون أو المدعون اصطلاحاً باسم الفاطميين- قبل نحو ألف عام أجداد رهبان دير بيشوي وما يجاوره في بناء تلك الأديرة، والسماح للأرمن بتشييد بعضها.

بنظرة فاحصة إلى خريطة مصر الغربية يمكن مد خط من الشمال إلى الجنوب يرسم ملمح القادم.. مجموعة من الرهبان من الأسكندرية يضعون أيديهم على أراضٍ إلى الجنوب في الفيوم مروراً بالأراضي الشاسعة التي يمتلكونها في وادي النطرون، الذي يتمتع فيه الرهبان بنفوذ واسع.

يمكن النظر أيضاً إلى دير (الأنبا صموئيل) بالمنيا الذي يفرض سيطرته على مساحة هائلة من الأراضي تزيد بمقدار النصف عن مساحة الأراضي المستولى عليها بالفيوم! إلى الشرق يمد هذا التمدد دعوات مشبوهة من بعض القوى السياسية و(منظمات المجتمع المدني) لفصل وادي النطرون عن محافظة البحيرة بعد ضم أجزاء من محافظة مطروح إليها!

فلسفة هذا الامتداد تثير الريبة لا من حيث كونها إجراءً إدارياً روتينياً قد يحصل مثيله في أي مكان، وإنما بسبب ما يحيط بهذا التوجه الطائفي لهذا التحوصل بعيداً عن روح الوطن وقلبه.. (هذه المنطقة فارغة وممتدة حتى الأطلسي)! هكذا أوضح الراهب الذي حاوره ناشط في مجال البيئة في مقطع شهير على اليوتيوب؛ فهذه المنطقة بحسب منطق الراهب لا مالك لها فصار هؤلاء هم ملاكها بوضع اليد، بل قل بالاحتلال؛ فإذ الرهبنة تتحول من فعل انكفائي زاهد إلى امتداد وغزو دنيوي يبتلع الأراضي بحجة ألا قيمة لها!

القاهرة الرسمية صامتة إزاء ما حصل حتى الآن، ولكن القضية بما تحمله حتى الآن من ردود أفعال -وإن كانت خافتة وتتحاشاه قوى تعول كثيرًاً على الصوت القبطي في الانتخابات- ستعيد النظر مراراً في التفكير بجدية في مخططات تقسيم مصر؛ فما لاحظته حساسيات -مسيحية وأخرى مسلمة- بوضوح أن طريقة اختيار راهب من محافظة البحيرة عن طريق قرعة أفضت إلى تجليس زميل له ينتمي إلى الكنيسة ذاتها على كرسي البابوية، على النحو الذي أثار لغطاً هائلاً حول لعبة كرات الاختيار المشبوهة في نظر البعض، وكلاهما يلتصق بقوة بدير وادي النطرون تحديداً، والذي زادت أهميته في الآونة الأخيرة حتى أصبح من أركان الاحتفال بـ(الاختيار)، وجود البابا قبل وبعد (القرعة) في دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون تحديداً، والذي دفن فيه البابا الراحل شنودة! ويتردد بقوة أن بعضهم ينتمي فكرياً إلى (جماعة الأمة القبطية)، والتي حل جل قادتها في محافظة البحيرة (وفي عاصمتها دمنهور تحديداً) وترهبنوا في دير وادي النطرون.

تلك تفاصيل خاصة بأصحابها، ولا نريد منها شقها (الديني) الذي نحترم فيه خصوصية (مسيحي) مصر، ولا نريد الخوض فيه كثيراً، غير أن شقه السياسي نجد أنفسنا معنيين به جداً، كونه يحمل أكثر من علامة استفهام حول مغزى هذا التوسع الجغرافي للأديرة، ووظيفتها الصاعدة في غرب مصر، مع وجود دعوات لعزلها، ووجود خرائط تدعم هذا التصور، وأفكار غربية تتداولها بعض مراكز الأبحاث في الغرب، ودوائر صنع القرار، تعززها دعوات من أقباط المهجر لفتح هذا الملف الخطير.

نحن في النهاية لا نريد فتناً بين أبناء وطننا، لكننا نبغي عدالة وتطبيقاً صارماً للقانون، وتفعيلاً واضحاً لمضامين الأمن القومي المصري في وقت تتعرض فيه دول كثيرة محيطة لمراحل متقدمة من خطط التقسيم. تلك الخطط التي لا ينبغي الاسترسال كثيراً خلف فكرة أن مصر عصية على التقسيم، أو أن تكوينها الديموجرافي لا يسمح بذلك؛ فهذا وإن كان صحيحاً في الجملة؛ فإنه لا يحول دون تنفيذ ما يمكن اعتباره لأول وهلة خيالاً بعيد المنال، فتجارب التقسيم حولنا لا تتوقف كثيراً عند حدود الجغرافيا أو التجانس السكاني أو قوة الدولة أو ما نحو ذلك؛ فتلك اعتبارات تقصر حينما تطمع الدول الكبرى، وترى لحظة ضعف سانحة للانقضاض.. فلا بد من التذكر دوماً أن مصر في ذهن دهاة غربيين هي صخرة يتوجب تفتيتها لتحييدها.

إننا لا نحكي هذراً حول مساحات محدودة من الأراضي في مصر تم وضع مجموعة من الرهبان أيديهم عليها.. لا، نحن نتحدث عن أراضٍ تتبع أديرة تكافئ مساحتها بعض الدول العربية الصغيرة، وتتنوع زراعاتها وصناعاتها على نحو تكاملي يثير الريبة، لا سيما حين يعزز ذلك مطالبات لا نمطية طموحة باتجاه أوضاع استثنائية لتلك الأديرة وقادتها وزعمائها.


4/1/1434 هـ