اليهود المتمصرون... بأي حق يعودون؟!

عبد المنعم الشحات

اليهود المتمصرون: "رفضوا الجنسية المصرية - كسبوا ثرواتهم عن طريق الامتيازات الأجنبية الواقع- حصلوا على تعويضات سخية" فبأي حق يعودون؟!

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -


اليهود المتمصرون: "رفضوا الجنسية المصرية -كسبوا ثرواتهم عن طريق الامتيازات الأجنبية- حصلوا على تعويضات سخية" فبأي حق يعودون؟!

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد أثارت تصريحات الدكتور "عصام العريان" بشأن عودة اليهود المصرين واسترداد ممتلكاتهم الكثير من الجدل! مما دفع "مؤسسة الرئاسة"، بل و"حزب الحرية والعدالة" إلى التبرؤ منها.

وقد مثـَّلت هذه التصريحات سقطة ما كنا نحب أن تقع من الدكتور "عصام"، كما أننا لم نكن نود الحديث حولها، لولا أنها فجرت نقاشًا مجتمعيًّا يتطلب منا أن نوضحه حتى تستقيم الأمور.

تصريحات الدكتور "عصام" محاولة للفهم:

غالب الظن أن الدكتور "عصام العريان" قد وقع في أسر الاستغراق في فكرة "التسامح" والتي ممكن أن يذهل من يقع فيها عن الحد الفاصل بين ما يقبل التسامح وبين ما لا يقبل، والتي ربما تصل إلى حد أن "من لا يملك يُعطي من لا يستحق!".

فمبدأ أن مواطني البلاد الإسلامية من أهل الكتاب "اليهود والنصارى" ينطبق عليهم قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، مبدأ لا خلاف عليه إلا أن هذا لا يعني أن نمنح جنسية لمن يطلبها "فضلاً عمن لم يطلبها!" -كما سنبين-، ولا أن نعترف بجريمة لم نرتكبها!

نعم، قد يُقبل هذا في الأمور الشخصية التي سوف يدفع الشخص فاتورتها من جيبه، ولكن بالنسبة للأمور العامة فينبغي أن يكون المرء شحيحًا بحقوق مَن يتحدث باسمهم.

وهناك تفسير آخر لتصريحات الدكتور "العريان" وهو: أن عودة هؤلاء اليهود المتمصريين -هذا هو الوصف الصحيح- سوف يخلي مكانًا لعودة اللاجئين الفلسطينيين.

وهو أمر يكتنفه الخلل من جهتين:

الأولى:

خلط الأوراق بحل مشكلة شعب على حساب شعب آخر، ومهما يكن بينهما من حب وولاء فلا ينبغي أن يصل هذا إلى تلك المقايضة السطحية دونما تفويض، وإذا رجعنا إلى السيرة نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه وفد هوازن يناشدونه رد السبي إليهم وكان قد تم توزيعهم على الجيش لم يلجأ إلى إلزام الجيش بذلك، وإنما رغبهم فيه رغم ما في ذلك من المصلحة العامة.

الثانية:

أن من يدرك طبيعة اليهود بصفة عامة ويدرك طبيعة دولة إسرائيل وأهداف نشأتها -ومدى حاجة المعسكر الغربي لها- يدرك أن تلك المقايضة إن تمت فلن يتم منها في الواقع إلا "شطرها الخاص بعودتهم إلينا طبعًا أو حصولهم على التعويضات دون عودة" بينما سوف يشغل مكانهم هناك بيهود ولو كانوا من "يهود الفلاشا"، لأن أهداف قيام دولة إسرائيل أعمق من توصيفها على أنها أزمة انفجار سكاني!

بين اليهود المصريين واليهود المتمصرين:

إن الأزمة الرئيسية في تصريحات الدكتور "العريان" أنه وصَّف المسألة توصيفًا خاطئًا، فظن أننا أمام مصريين يدينون باليهودية -وبالتالي فهم من أهل الكتاب- سبق وأن تعرضوا لظلم من حاكم سابق وآن الأوان لكي يستردوا حقوقهم في ظل نظام ذو أغلبية إسلامية تطبيقًا لقواعد الشريعة.

وفى الواقع:

إن مَن خرج من اليهود منذ الحرب العالمية الثانية مرورًا بأعوام 48 وَ56 وَ61 لم يكونوا حاملين للجنسية المصرية، ولم يكونوا من الشعوب التي استوطنت مصر استيطانًا حقيقيًّا وامتزجت بها، بل لا يعدو أمرهم أن يكونوا جاليات جاءت لتنعم بالأمن وتعمل بالتجارة الرائجة ثم غادرت لما تبدل الحال غير آسفة وغير مأسوف عليها! وأن من ارتبط منهم بمصر وتقبل العيش في كنف أغلبيتها المسلمة ولم يناصر بني جنسه ودينه على حساب الدولة التي آوته ومنحته جنسيتها بقي في مصر وعدد هؤلاء في تناقص كما هو حال الجاليات اليهودية في كل البلاد، وقد بقي منهم اليوم بضع عشرات يتمتعون بحقوقهم كاملة.

ومن المفيد هنا أن نرد على بعض من استثمر تصريحات الدكتور "عصام العريان"، لكي ينتقد النص في المادة الثالثة من الدستور على اليهود والمسيحيين رغم ندرة عددهم في مصر واعتبر أن هذا هو الذي مهد لتصريحات الدكتور "عصام"!

ولا ندري كيف يمكن أن يصدر هذا عمن يدافع عن حقوق المواطنة حتى وصل به الحال إلى المطالبة بمعبد بوذي ولو كان "صغنن"؟!

وعلى أي فإن ذكر اليهود والمسيحيين في المادة الثالثة كان ضروريًّا لبيان أن هذه المادة فرع على المادة الثانية وأنها التزام ديني قبل أن يكون سياسيًّا أو عرقيًّا.

وهنا يكمن موضع اللبس لدى كثير من الناس حيث إن اليهودية ليست مجرد دين يعتنقه طائفة من البشر، بل هو دين مغلق على قومية معينة، وهي مسماة أيضًا باليهودية، مما يجعل الفصل بينهما في غاية الصعوبة، وعامة اليهود لا يفرقون بين انتمائهم القومي وانتمائهم الديني، بل كان هذا التلازم في ذهن بني إسرائيل هو أحد الأسباب التي سهلت على الأحبار والرهبان تحريف الدين وإلزام جميع اليهود به، ثم زاد الأمر تعقيدًا بإنشاء دولة إسرائيل والتي تمنح جنسيتها لكل يهودي، بل تناشد كل يهودي في العالم أن يهاجر إليها.

ومن المعلوم: أن هذا الكيان قد قام نتيجة اغتصاب جزء كبير من فلسطين العربية الإسلامية، ومِن ثَمَّ فالأصل في اليهودي أن انتماءه للدين وللقومية ولدولة إسرائيل "وإن لم يهاجِر إليها".

ويستثنى من ذلك حالات:

1- أقوام من بني إسرائيل نسبًا خرجوا من اليهودية إلى الإسلام، ومن أمثلتهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه، ويوجد في زماننا بعضًا منهم وقد شهدت مصر لا سيما في العصر المملوكي دخول عدد كبير من العلائلات اليهودية في الإسلام.

2- في بعض الفترات سمح الحاخامات بتهويد بعض من ليسوا من اليهود نسبًا وأصبحوا يهودًا ديانة، وعامتهم شديد الولاء لدولة إسرائيل.

3- يهود نسبًا وديانة والتزموا بقوانين البلاد التي يحملون جنسياتها ولم يهاجروا منها إلى إسرائيل ولم يشاركوا في عمليات ضد أوطانهم، وهذا ما ينطبق على اليهود المصريين الذين يقيمون في مصر الآن.

وأما من خرجوا من مصر فقد قدمنا أنهم ليسوا مصريين أصلاً سواء من هاجر منهم إلى إسرائيل أو من هاجر إلى غيرها، ويمكن إيجاز تاريخ اليهود في مصر على النحو الآتي:

ملخص تاريخ اليهود المتمصرين:

1- جاءوا إلى مصر على شكل موجات متتابعة فرارًا من الاضطهاد أو رغبة في الاستفادة من الرواج الاقتصادي في مصر، فكان قدوم بعضهم من الأندلس مع المسلمين الفارين منها بعد سقوطها في أيدي الصليبيين، وقدم بعضهم مع بداية دخول مصر في الحكم العثماني لما مثّلته مصر في ذلك الوقت من محور هام للتجارة، وقدم بعضهم مع بداية اشتعال الحروب في أووربا، وأخيرًا جاء بعضهم فرارًا من الاضطهاد النازي.

2- استوعبهم الشعب المصري وعاشوا في كنفه تُجارًا وصُناعًا.

3- عندما استطاعت الدول الأوروبية الضغط على الدولة العثمانية من أجل فرض نظام الامتيازات الأجنبية سعوا إلى القناصل الأجنبية واشتروا منها جنسيات أوروبية.

4- من خلال الامتيازات الأجنبية سيطروا على معظم أنشطة الاقتصاد المصري من: (تجارة القطن - المنسوجات - المعارض متعددة الأقسام، مثل: "عمر أفندي - شيكوريل - عدس - ريفولي" - صناعة السكر - البنوك).

5- بالإضافة إلى الامتيازات الأجنبية التي استفادوا منها -بحكم الجنسيات الأوروبية التي اكتسبوها- رحبوا بالحماية البريطانية لهم باعتبارهم إحدى الأقليات داخل الدولة العثمانية.

6- عندما استقلت مصر عن كل من الدولة العثمانية وعن بريطانيا -شكليًّا- في 1922م، وصدر قانون الجنسية المصري سنة 1926م وتعديله سنة 1929م وكلاهما كان يمكِّن اليهود المقيمين في مصر أن ينالوا الجنسية المصرية حيث كانت فلسفة القانون منح جميع المقيمين في مصر إقامة دائمة منذ 1900م الجنسية المصرية، وكذلك منحها حتى لمن ابتدأت إقامته في مصر سنة 1914م، ولكن مع بعض الشروط المخففة جدًّا، مما يعني أن اليهود المقيمين في مصر كانوا يستطيعون بسهولة أن يحصلوا على الجنسية إلا أن عددًا قليلاً منهم جدًّا هو الذي حرص على ذلك، وهؤلاء نالوها بالفعل وهؤلاء بقوا في مصر حتى الآن، وهم من نسميهم: "اليهود المصريين".

7- وأما الغالبية العظمى من اليهود المقيمين في مصر فلم يتقدموا للحصول على الجنسية المصرية، وبالتالي فالوصف الدقيق لهم أن يقال: "يهود متمصرين" كما أطلقه عليهم الدكتور "المسيري" رحمه الله تعالى.

ويرجع السبب في رفض اليهود الحصول على الجنسية المصرية للأسباب الآتية:

● ظهر قانون الجنسية المصرية في وقت كانت الحركة الصهيونية في أشد انتشارها وكان حلم الدولة اليهودية قد بات وشيكًا، وقد انخرط اليهود المتمصرين في الحركة الصهيونية وشاركوا في دعمها بصورة علنية قبل ثورة يوليو 1952م، ومِن ثَمَّ فقد حرصوا على عدم الحصول على الجنسية المصرية حتى يسهل لهم الخروج من مصر عندما تتأسس دولتهم وقد كان.

● اشتراط قانون الجنسية عدم حصول المتقدم لها على جنسية دولة أخرى بحكم كونه أول قانون جنسية فاعتبر المقيمين من غير رعايا الدول الأخرى هم المصريين، ولما كان اليهود حاملين لجنسيات أخرى فقد فضلوا عدم التنازل عنها في سبيل استمرار تمتعهم بالامتيازات الأجنبية.

8- كانت أولى موجات هجرة اليهود من مصر مع قيام الحرب العالمية الثانية ودخول ألمانيا الأراضي المصرية، مما أفزع اليهود فصفّى البعض ممتلكاته ورحل اختياريًّا.

9- كانت الموجات الأخرى من الهجرة بعد حرب 1948م وإعلان قيام دولة إسرائيل عن طريق الهجرة غير الشرعية إلى إسرائيل وبدون علم الحكومة المصرية "التي لم تكن ترغب في هجرتهم، حتى لا يدعموا كيان الدولة اليهودية الوليدة، مما يعني أن ادّعاء إجبارهم على الرحيل هو عكس الذي حدث تمامًا!".

10- بعد ثورة 1952م طبقت كل من أمريكا وإنجلترا سياسة الاحتواء تجاه الثورة المصرية، مما أغضب اليهود في إسرائيل والذين كانوا يرغبون في وجود روح عدائية أكثر حدة فدبرت وزارة الدفاع الإسرائيلية عام 1954م عملية إحراق للسفارات الأمريكية والإنجليزية في مصر بغرض دفعهما إلى تبني سياسة أكثر عدائية تجاه مصر، وسميت هذه العملية باسم: "عملية سوزانا" وعرفت لاحقًا باسم: "فضيحة لافون" -وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك-.

فشلت العملية وحوكم منفذوها والذين عوملوا كمقيمين وليس كمواطنين مصريين، لأنهم لم يكونوا قد حصلوا على الجنسية المصرية -كما أسلفنا- وجاءت الأحكام رادعة، ولكنها من وجهة نظر اليهود والعالم الغربي كانت قاسية، مما جعل معظم مَن لا يحمل الجنسية المصرية من اليهود يدرك خطورة بقائه في مصر بلا جنسية، وكان من نتيجة هذا أن حدثت موجة هجرة جديدة، و"للمرة الثالثة نتحدث عن هجرة اختيارية"، وبالطبع فإن من يقوم بها يُصفّي ممتلكاته بنفسه قبل أن يهاجر.

11- بعد عدوان 1956م ورغم حرص "حكومة ثورة يوليو" على طمأنة اليهود المصريين فإن اليهود قد شعروا لأول مرة منذ قدومهم مصر بالعدائية التي كانت تطاردهم في كل مكان قد نزلت عليهم بمصر أيضًا من جراء الأفعال الإجرامية للكيان الصهيوني؛ لا سيما بعد تضرّر مصر مباشرة منها سواء "عملية سوزانا" أو "العدوان الثلاثي".

12- في عام 1961م أصدر الرئيس "جمال عبد الناصر" قانون التأميم، والذي طبق على ممتلكات المصريين والأجانب على حد سواء؛ إلا أن الدولة حرصت على دفع تعويضات للأجانب لتفادي الغضب الدولي، وقد أسلفنا أن معظم اليهود المقيمين في مصر كانوا يحملون جنسيات أوروبية تمكنوا من خلالها من الحصول على تعويضات بينما لم تُدفع تعويضات للمصريين!

13- بعد قانون التأميم فقد اليهود المتمصرين كل مبررات وجودهم في مصر فرحلوا جميعًا بطريقة اختيارية أيضًا "التأميم كان جبريًّا ولكن بتعويض، وأما الرحيل فكان اختياريًّا".

14- بعد صدور قوانين إلغاء فرض الحراسة والتي نصت على إلغاء الحراسة ودفع تعويضات -لمن أُممت أمواله- حاول بعض اليهود خداع الحكومة المصرية ظانين عدم وجود وثائق تُثبت حصولهم على تعويضات!

ومن تلك الوقائع ما أورده الأستاذ "محمد عبد الهادي علام" في مقال له بعنوان: "الأملاك المفقودة اختراع إسرائيلي من أجل التوطين"، والمنشورة في جريدة الأهرام بتاريخ: "23-11-2009م" جاء فيها: "فقد كانت محكمة الإسكندرية الابتدائية أصدرت حكمًا عام 1999م لصالح ورثة ألبرت ميتزجر بإعادة فندق سيسل بالإسكندرية إليهم بعد ما قدموا وثائق ومستندات تثبت ذلك، ثم تبين أن ورثة ميتزجر كانوا قد حصلوا علي تعويضات عام 1958م بعد فرض الحراسة عليه وممتلكاته، كما أن المستندات التي قُدَّمت إلي المحكمة بشأن قرارات أصدرتها لجنة تصفية الحراسات أيام الرئيس السادات برفع الحراسة مزورة أيضًا، كما تبين أساسًا أن ميتزجر نفسه كان استولى على الأرض المقام عليها الفندق من أصحابها الحقيقيين، وهي أرض تردد أنها كانت تابعة للكنيسة المصرية وقامت الحكومة المصرية بنقض الحكم، وبعد هذا الكشف لم يتقدم أحد إلى الحكومة المصرية أو إلى القضاء بطلبات جديدة من هذا النوع".

وهذه القضية كنموذج تفرض علينا التروي قبل الحكم لأحد بحق عند الشعب المصري بغير بيِّنة ولا برهان!