محاولة للتعرف على السياق والفاعلين

محمد جلال القصاص

إن واجب المرحلة كما يبدو لي في توضيح الرؤية تجاه من يصارعنا، وأهدافه، وآلياته التي يستعملها، وأدواته التي يضرب بها، وأنه لا يستفيد منه إلا أفراد فقط، أما الأمم وأما البلاد فتُستَذل وتُنهب. وأما هؤلاء فهم أدوات يُستعملون من أجل إخراجنا من إحدى صور التبعية والمهانة إلى صورة أخرى. معاول هدم، وليسوا أبداً حلاً ولا جزءاً من الحل.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -


مع بداية القرن الواحد والعشرين أعلنت أمريكا أنها بصدد إجراء تغيير في (أصدقائها) بالشرق الأوسط، واشتهر الحديث على لسان كونداليزا رايس حال اختبارها قبل تولي وزارة الخارجية في حكومة (بوش الصغير).


وفي عام 2004 ظهر في مسرح الأحداث المصرية طليعة ما يُعرف بـ(الحركات الاحتجاجية)، وكانت البداية بحركة (كفاية)، ترفض التمديد للمخلوع والتوريث لابن المخلوع، ثم توالت (الحركات الاحتجاجية)، ولم يكن ينال أيّاً منها بطشُ النظام؛ ثمة مَن كان يحول بينها وبين أن يأخذها النظام في عشية، فلم تعامل بعشر معشار ما كان يتعامل به الإسلاميون، أولئك الذين كانوا يؤخذون بغير ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله [1].

لم تثر أسئلةً عن نشأة هذه الحركات، ولا عن تلك اليد التي تمنع النظام من أخذها؛ ربما لأن الناس كانوا فرحين مسرورين بمن يقاوم الظالمين وينال منهم، أيًّا كان. وأهم من هذا أن أحداً لم يقف طويلاً عند الآليات التي كان يستعملها هؤلاء في وسائل الاتصال، وخاصة الفيس بوك وتويتر، وفي الشارع من وقفات، ومسيرات، وإضرابات.


القراءة الأهم في الحدث هي أن هؤلاء مدربون على ما يُعرف بثورات اللاعنف، وهو علم تم استقراؤه من بعض الثورات والاحتجاجات اللاعنفية التي حصلت في شرق أوروبا ووسطها وفي الهند؛ وهو علم يدرس ويُنشر في سياق غربي تحديداً أمريكي، وينسب تحديداً لعالم أمريكي يُدعى (جين شارب)، وبمقارنة ما كتبه جين شارب وما يفعله هؤلاء نجد أنهم يطبقون حرفياً، ولم يعد سراً أنهم قد دربوا عليه في أوروبا بإشراف أمريكي.

فمما لا شك فيه أننا أمام سياق تثوير؛ سياق تغيير، يستعمل وسائل فعَّالة ومجربة لقلب الأنظمة الحاكمة، وقد درب عدداً من أهل مصر للقيام بما يريد.


وبعضهم يتحدث عن (إخلاص) من نَصَبَ (حركات التغيير)، وعن صدق الجماهير في إرادة التغيير، ودعنا نصدق أن النخبة التي قادت الحراك كانت مخلصة، وأنها كانت تنفق من مالها الخاص، ولم تكن تتعاط تبرعات خارجية، أو يتصلون بجهاتٍ خارجية (سفارات وجمعيات...)، ولا يبحثون عن شهرة في القنوات الفضائية!! وأن الجماهير كانت تريد التغيير. صدِّق قولهم، وسأصدقهم معك. ودعنا نمر لما هو أهم:

إن قلنا بصدق (النخبة) التي تحركت في (الحركات الاحتجاجية)، و(حركات من أجل التغيير)، و(الحركات العمالية)، وصدق الجماهير التي دعمتهم في مشهد الثورة؛ فإنه ثمة حقيقة لا نستطيع أن نغفلها وهي أن: هؤلاء وإن كانوا يرفضون الموجود ويثورون عليه فإنهم لا يملكون البديل، وليسوا مجتمعين. فهي حالة من الرفض، وهي جماعات مختلفة تجمعت من أماكن شتى في نقط واحدة (الميدان ثورةً على المخلوع)، ولم تخرج من الميدان في طريقٍ واحد، ولا تستطيع أن تخرج من الميدان إلى طريقٍ واحد، بل ولا تستطيع أن تبقى بالميدان على قلب رجل واحد.

ومن دلَّهم، وأمدهم، ودربهم، يعرف هذا الأمر، وساعد فيه، وهذا واضح من مواقف الخارج من قوى الداخل؛ وما يعنيني هنا: هو أن هؤلاء لا يجتمعون إلا على رفضٍ كما هو حادث الآن، فهم في الصراع الدائر أداةُ رفضٍ أو معول هدمٍ. فحين خرج المخلوع عن النص، أو لمَّا تطورت الظروف ولم يعد المخلوع مناسباً استعملت هذه الأداة في خلعه؛ وحين وثب الإسلاميون للسلطة خرجت هذه الأداة من جيب (صاحبها)، وراح يستعملها في (خلع الإخوان) أو ضبطهم على المسار الذي حدده.

إن لكل صراع أطراف، وقضية يتصارعون عليها، وأدوات يستعملونها؛ والصراع الآن بين الغرب، القوى الاستعمارية الكبرى التي تبحث عن أسواقٍ لبضائعها ومن بضائعها السلاح، وأرض لاستثماراتها، ومواد خام لمصانعها على رأسها الطاقة بترولاً وغازاً، ونقاط تقف فيها لبسط سيطرتها وتأمين مواردها وأسواقها والأرض التي تستثمر فيها؛ وبين هذه الشعوب المطحونة، تريد القوى الاستعمارية تعديل وضع هذه الشعوب من جديد لتدخل حلقة جديدة من التبعية؛ تدخلها في وهم التغيير، أملاً في جديد ينفث عنها، تلهو به أعواماً ثم تفيق وقد دخلت نفقاً جديداً، تماماً كما حدث مع الثورات في منتصف القرن الماضي.

وإن النظرة الأعمق تدل على أن سياسة (المصارع الخارجي) هي التفتيت، لإيجاد كيانات ضعيفة، متناحرة، موالية؛ وإن (المصروع داخلياً) غابت عنه هذه الرؤية، غاب عنه معرفة من نصارع؟، وماذا يريد منا؟، وماذا فعل بنا؟ وبغيرنا ممن حاله كحالنا في أفريقيا مثلاً؟!؛ وأن هؤلاء يرفعون يافتات مغرية جذابة، ولكنها كذابة، وأن هؤلاء الذين بالشارع أدوات صراع ومعاول هدمٍ، وليس عندهم حل، وليسوا في سياق الحل، وإنما في سياقٍ أشد خطورة مما قد كان قبل الثورة، وهو: إفشال التجربة الإسلامية في الحكم، وقد حاولوا من قبل بشكل مصغر في مجلس الشعب.

وإن قوة الدولة (الحكومة) من ثقة الناس أو خوفهم، والناس اليوم لا يثقون في الموجود، ولا يخافون منه، وبالتالي معلقون أنتم في الهواء، وقدرة (المصارع الخارجي) عليكم سهلة هينة؛ وإن ثار الناس فلن يعرض الخيار الإسلامي ثانية.


إن واجب المرحلة كما يبدو لي في توضيح الرؤية تجاه من يصارعنا، وأهدافه، وآلياته التي يستعملها، وأدواته التي يضرب بها، وأنه لا يستفيد منه إلا أفراد فقط، أما الأمم وأما البلاد فتُستَذل وتُنهب. وأما هؤلاء فهم أدوات يُستعملون من أجل إخراجنا من إحدى صور التبعية والمهانة إلى صورة أخرى. معاول هدم، وليسوا أبداً حلاً ولا جزءاً من الحل.


-----------------------------------------------------
[1] كانت هذه الحركات محمية ظاهراً بما يعرف بمنظمات المجتمع المدني ومن ورائها الإدارة الأمريكية والمنظمة الأممية بدعوى حقوق الإنسان، وهؤلاء في تصنيف السياسة الدولية فاعل دولي، ويستعملون لتحقيق أغراض خاصة بالقوى العالمية، وتحركاتهم ليس لها نسق ثابت، فقد تجمعوا في دارفور بدعوى حماية الفقراء، وصموا وعموا عن (أوجادين)، و(بوروندي). وحتى الذين هبوا لنجدتهم لم يستفيدوا منهم، فلم يغنوا فقيراً ولم ينصروا مظلوماً، وإنما في كل مرة هم رواد القوى الدولية الظالمة.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام