محمد الفاتح وفتح القسطنطينية

تعدالقسطنطينية من أهم المدن العالمية، وقد كان لها موقع عالمي فريد حتى قيل عنها: "لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها"، وعندما دخل المسلمون في جهاد مع الدولة البيزنطية كان لهذه المدينة مكانتها الخاصة من ذلك الصراع، ولذلك فقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتحها في عدة مواقف، «لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش».

  • التصنيفات: التاريخ الإسلامي - تراجم العلماء -


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش» (روه الإمام أحمد في مسنده).

السلطان محمد الفاتح:
هو السلطان محمد الثاني 431هـ -1481م، يعتبر السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان يلقب بالفاتح وأبي الخيرات، حكم ما يقرب من ثلاثين عاماً كانت خيراً وعزة للمسلمين. تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في 16 محرم عام 855هـ الموافق 18 فبراير عام 1451م  وكان عمره آنذاك 22 سنة.

ولقد امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء، وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ، مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال، حتى أنه اشتهر أخيراً في التاريخ بلقب محمد الفاتح، لفتحه القسطنطينية.

وقد انتهج المنهج الذي سار عليه والده وأجداده في الفتوحات، ولقد برز بعد توليه السلطة في الدولة العثمانية بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيرًاً بالأمور المالية فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف. وكذلك ركز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر. وعمل على تطوير إدارة الأقاليم وأقر بعض الولاة السابقين في أقاليمهم وعزل من ظهر منه تقصير أو إهمال، وطور البلاط السلطاني وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الإمام.

وبعد أن قطع أشواطاً مثمرة في الإصلاح الداخلي تطلع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، ولقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه، منها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب المنازعات مع الدول الأوروبية الأخرى، وكذلك بسبب الخلافات الداخلية التي عمت جميع مناطقها ومدنها ولم يكتف السلطان محمد بذلك بل إنه عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، والمعقل الإستراتيجي الهام للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن، والتي طالما اعتزت بها الإمبراطورية البيزنطية بصورة خاصة والمسيحية بصورة عامة، وجعلها عاصمة للدولة العثمانية وتحقيق ما عجز عن تحقيقه أسلافه من قادة الجيوش الإسلامية.

أولاً: فتح القسطنطينية:
تعدالقسطنطينية من أهم المدن العالمية، وقد أسست في عام 330م على يد الإمبراطورالبيزنطي قسطنطين الأول، وقد كان لها موقع عالمي فريد حتى قيل عنها: "لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها"، ومنذ تأسيسها فقد اتخذها البيزنطيون عاصمة لهم وهي من أكبر المدن في العالم وأهمها، عندما دخل المسلمون في جهاد مع الدولة البيزنطية كان لهذه المدينة مكانتها الخاصة من ذلك الصراع، ولذلك فقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتحها في عدة مواقف، من ذلك: ما حدث أثناء غزوة الخندق، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة طمعاً في أن يتحقق فيهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش» (الجامع الصغير:7227).

لذلك فقد امتدت إليها يد القوات المسلمة المجاهدة منذ أيام معاوية بن أبي سفيان في أولى الحملات الإسلامية عليها سنة 44هـ ولم تنجح هذه الحملة، وقد تكررت حملات أخرى في عهده حظيت بنفس النتيجة.
كما قامت الدولة الأموية بمحاولة أخرى لفتح القسطنطينية وتعد هذه الحملة أقوى الحملات الأموية عليها، وهي تلك الحملة التي تمت في أيام سليمان بن عبد الملك سنة 98هـ .

واستمرت المحاولة لفتح القسطنطينية حيث شهد العصر العباسي الأول حملات جهادية مكثفة ضد الدولة البيزنطية، ولكنها لم تتمكن من الوصول إلى القسطنطينية نفسها وتهديدها مع أنها هزتها وأثرت على الأحداث داخلها، وبخاصة تلك الحملة التي تمت في أيام هارون الرشيد، سنة 190هـ.

وقد قامت فيما بعد عدة دويلات إسلامية في آسيا الصغرى كان من أهمها دولة السلاجقة، التي امتدت سلطتها إلى آسيا الصغرى. كما أن زعيمها ألب أرسلان 455- 465هـ / 1063-1072م استطاع أن يهزم إمبراطورالروم ديمونوس في موقعة ملاذ كرد عام 464هـ/1070م ثم أسره وضربه وسجنه، وبعد مدة أطلق سراحه بعد أن تعهد بدفع جزية سنوية للسلطان السلجوقي، وهذا يمثل خضوع جزء كبيرمن إمبراطورية الروم للدولة الإسلامية السلجوقية. وبعد ضعف دولة السلاجقة الكبرى ظهرت عدة دول سلجوقية كان منها دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى والتي استطاعت مد سلطتها إلى سواحل بحر إيجة غربا وإضعاف الإمبراطورية الرومانية.

وفي مطلع القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي خلف العثمانيون سلاجقة الروم، وتجددت المحاولات الإسلامية لفتح القسطنطينية، وكانت البداية حين جرت محاولة لفتحها في أيام السلطان بايزيد (الصاعقة) الذي تمكنت قواته من محاصرتها بقوة سنة 796هـ - 1393م، وأخذ السلطان يفاوض الإمبراطور البيزنطي لتسليم المدينة سلماً إلى المسلمين، ولكنه أخذ يراوغ ويماطل ويحاول طلب المساعدات الأوربية لصد الهجوم الإسلامي عن القسطنطينية، وفي الوقت نفسه وصلت جيوش المغول يقودها تيمورلنك إلى داخل الأراضي العثمانية وأخذت تعيث فسادًا، فاضطر السلطان بايزيد لسحب قواته وفك الحصار عن القسطنطينية لمواجهة المغول بنفسه ومعه بقية القوات العثمانية، حيث دارت بين الطرفين معركة أنقرة الشهيرة، والتي أسر فيها بايزيد الصاعقة ثم مات بعد ذلك في الأسر سنة 1402م، وكان نتيجة ذلك أن تفككت الدولة العثمانية مؤقتا، وتوقف التفكير في فتح القسطنطينية إلى حين.

وما إن استقرت الأحوال في الدولة حتى عادت روح الجهاد من جديد، ففي أيام السلطان مراد الثاني الذي تولى الحكم في الفترة 824هـ - 863هـ / 1421 - 1451م جرت عدة محاولات لفتح القسطنطينية وتمكنت جيوش العثمانيين في أيامه من محاصرتها أكثرة من مرة، وكان الإمبراطور البيزنطي في أثناء تلك المحاولات يعمل على إيقاع الفتنة في صفوف العثمانيين بدعم الخارجين على السلطان، وبهذه الطريقة نجح في إشغاله في هدفه الذي حرص عليه، فلم يتمكن العثمانيون من تحقيق ما كانوا يطمحون إليه إلا في زمن ابنه محمد الفاتح فيما بعد.

كان محمد الفاتح يمارس الأعمال السلطانية في حياة أبيه ومنذ تلك الفترة وهو يعايش صراع الدولة البيزنطية في الظروف المختلفة، كما كان على اطلاع تام بالمحاولات العثمانية السابقة لفتح القسطنطينية، بل ويعلم بما سبقها من محاولات متكررة في العصور الإسلامية المختلفة، وبالتالي فمنذ أن ولي السلطنة العثمانية سنة 855هـ الموافق 1451هـ م، كان يتطلع إلى فتح القسطنطينية ويفكر في فتحها. ولقد ساهمت تربية العلماء على تنشئته على حب الإسلام والإيمان والعمل بالقرآن وسنة سيد الأنام ولذلك نشأ على حب الالتزام بالشريعة الإسلامية، واتصف بالتقى والورع، ومحبًا للعلم والعلماء ومشجعًا على نشر العلوم، ويعود تدينه الرفيع للتربية الإسلامية الرشيدة التي تلقاها منذ الصغر، بتوجيهات من والده، وجهود الشخصيات العلمية القوية التي أشرفت على تربيته، وصفاء أولئك الأساتذة الكبار وعزوفهم عن الدنيا وابتعادهم عن الغرور ومجاهدتهم لأنفسهم، ممن أشرفوا على رعايته.

لقد تأثر محمد الفاتح بالعلماء الربانيين منذ طفولته ومن أخصهم العالم الرباني (أحمد بن إسماعيل الكوراني) مشهودًا له بالفضيلة التامة، وكان مدرسه في عهد السلطان (مراد الثاني) والد (الفاتح). وفي ذلك الوقت كان محمد الثاني الفاتح، أميرًا في بلدة (مغنيسيا) وقد أرسل إليه والده عددًا من المعلمين ولم يمتثل أمرهم، ولم يقرأ شيئا، حتى أنه لم يختم القرآن الكريم، فطلب السلطان المذكور رجلا له مهابة وحدّة، فذكروا له المولى (الكوراني)، فجعله معلمًا لولده وأعطاه قضيبًا يضربه بذلك إذا خالف أمره..

فذهب إليه، فدخل عليه والقضيب بيده، فقال: "أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري، فضحك السلطان محمد خان من ذلك الكلام، فضربه المولى الكوراني في ذلك المجلس ضربا شديداً، حتى خاف منه السلطان محمد خان، وختم القرآن في مدة يسيرة.."، هذه التربية الإسلامية الصادقة، وهؤلاء المربون الأفاضل، ممن كان منهم بالأخص هذا العالم الفاضل، ممن يمزق الأمر السلطاني إذا وجد به مخالفة للشرع أو لا ينحني للسلطان، ويخاطبه باسم، ويصافحه ولا يقبل يده، بل السلطان يقبل يده. من الطبيعي أن يتخرج من بين جنباتها أناس عظماء كمحمد الفاتح، وأن يكون مسلماً مؤمناً ملتزماً بحدود الشريعة، مقيدا بالأوامر والنواهي معظماً لها ومدافعاً عن إجراءات تطبيقها على نفسه أولاً ثم على رعيته، تقياً صالحاً يطلب الدعاء من العلماء العاملين الصالحين.

وبرز دور الشيخ آق شمس الدين في تكوين شخصية محمد الفاتح وبث فيه منذ صغره أمرين هما:
1- مضاعفة حركة الجهاد العثمانية.
2- الإيحاء دوماً لمحمد منذ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي: «لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش»، لذلك كان الفاتح يطمع أن ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور.
 

 


علي محمد الصلابي