مواعظ من كلام السلف

  • التصنيفات: أخبار السلف الصالح -


- قال ابن الجوزي في صيد الخاطر (ص/138):
"لقيت مشايخ؛ أحوالهم مختلفةٌ، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم. وكان أنفعهم لي في صحبةٍ: العاملُ منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه. ولقيت جماعةً من أهل الحديث يحفظون ويعرفون؛ ولكنهم كانوا يتسامحون في غيبةٍ يخرجونها مخرج جرحٍ وتعديلٍ، ويأخذون على قراءة الحديث أجراً، ويُسرعون بالجواب لئلاَّ ينكسر الجاه، وإن وقع خطأ! ولقيت عبد الوهَّاب الأنماطي؛ فكان على قانون السلف؛ لم يُسْمَع في مجلِسهِ غيبةٌ، ولا كان يطلبُ أجرًا على إسماع الحديث، وكنتُ إذا قرأتُ عليه أحاديث الرقائق بكى، واتَّصل بكاؤه!!! فكان -وأنا صغير السنِّ حينئذٍ- يعملُ بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل. ولقيت أبا منصور الجواليقي؛ فكان كثير الصمت، شديد التحرِّي فيما يقول، متقناً محقِّقاً، ورُبَّما سُئل المسألة الظاهرة، التي يبادر بجوباها بعض غلمانه فيتوقَّف فيها حتى يتيقَّن، وكان كثير الصوم والصمت. فانتفعت بهذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما؛ ففهمتُ من هذه الحالة: أنَّ الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول... فالله الله في العمل بالعلم فإنه الأصل الأكبر، والمسكين كل المسكين: من ضاع عمره في علمٍ لم يعمل به؛ ففاته لذات الدنيا، وخيرات الآخرة؛ فقدم مفلساً مع قوَّة الحجَّة عليه".

- وقال بهاء الدين الباعوني (ت:871هـ) في قصيدة يعارض بها قصيدة (بانت سعاد)، فيها ازدراءٌ بالنفس وذنوبها وتماديها في الخطايا، ومنها:
 

ولي لسانٌ بقولِ الحقِ معترفٌ *** به وللنفسِ عندَ الفعلِ تبديلُ!!
أستغفرُ اللهَ مما جنته يدي *** من المعاصي وستر الله مسدولُ
أستغفرُ اللهَ مِن نقضِ العهودِ ومن *** جنايتي حين غرَّتني الأباطيلُ
أستغفر الله كم ضيَّعْتُ من زمني *** يا ليت إذهابه في اللهو تعطيلُ

يا ليتَ عيني لا ذاقت لذيذَ كرىً *** وليتَ دَمعي عَلَى الخدَّين مطلولُ
وليتني لم أنل من ملعبٍ أرباً *** مِنْ أَجله عملي باللهوِ مَدخولُ
وليتني بالناسِ لمْ أكنْ مـختلطاً *** فإن جمعهُمُ بالـموتِ مفلولُ
يا ليتهم من لساني لو نجوا ويدي *** إن لم يكن عن معاصي النفس تحويلُ!

يا نفس كم ذا التواني والشباب مضى *** كأنما القلبُ بالعصيانِ مجبولُ
كم ذا التهاون من إحدى لثانيةٍ *** ما اللهو والله عند النفس مملولُ!
ما تُمسِكُ العهد إن تابت وإن رجعت *** إلاَّ كما يمسك الماءَ الغرابيلُ
لـها من الغـدر أنواعٌ ملوَّنةٌ *** كما تلوَّن في أثوابها الغـولُ

ما حيلتي في صلاحي وهو ليس إلى *** إرادتي والحجى باللهو معقولُ
إن لم يساعدني التوفيقُ يا أسفي *** فدأبُ نفسيَ تسويف وتسويلُ
إن انتظرت ارعواء النفس كم ومتى *** والنفس بالطبع في آمالها طولُ
ما لي سوى قصد باب الله ملتجأً *** فإنني منه بالألطاف مشمولُ

ياربِّ ليس بلوغي مأربي بيدي *** فإنَّ مَنْ لم تُغِثْهُ فهو مخبولُ
ياربِّ صلِّ على الهادي وعِترَته *** ما انبثَّ في الأرض جيلٌ بعده جيلُ
كذاك سلِّم عليهم كلَّما صعَدت *** أعمال قومٍ لهم ذكرٌ وتهليلُ


- قال ابن الجوزي رحمه الله أيضاً في صيد الخاطر (ص/22): " أعظم المعاقبة أن لا يحسَّ المعَاقَبُ بالعقوبة، وأشد من ذلك أن يقع السرور بما هو عقوبة! كالفرح بالمال الحرام، والتمكُّن من الذنوب؛ ومن هذه حاله لا يفوز بطاعةٍ. وإني تدبَّرت أحوال أكثر العلماء والمتزهِّدين فرأيتهم في عقوباتٍ لا يحسُّون بها، ومعظمها من قِبَل طلبهم للرياسة. فالعالم منهم يغضب إن رُدَّ عليه خطؤُهُ، والواعظ متصنِّعٌ بوعظه! والمتزهِّدُ منافقٌ أو مراءٍ. فأوَّلُ عقوباتهم إعراضهم عن الحق؛ اشتغالاً بالخلق. ومن خفيِّ عقوباتهم: سلب حلاوة المناجاة ولذَّة التعبُّد. إلاَّ رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمنات يحفظ الله بهم الأرض؛ بواطنهم كظواهرهم؛ بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم؛ بل أحلى، وهممهم عند الثريَّا؛ بل أعلى، إنْ عُرِفُوا تنكَّروا، وإن رُئيت لهم كرامةٌ أنكروا. فالناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلواتهم! تحبُّهم بقاع الأرض، وتفرحُ بهم أملاك السماء. نسألُ الله عز وجل التوفيق لاتباعهم، وأن يجعلنا من أتباعهم" ا.هـ. آآآآآآميييييين.

- شعرٌ لأبي العتاهية:

خَانك الطرفُ اتئد *** أيها القلب الجموح
فدواعى الخير والشـ *** ـر دنو ونزوح
كيف إصلاح قلوب *** إنما هنّ قروح
أحسن الله بنا *** أن الخطايا لا تفوح!

فإذا المشهور منا *** بين ثوبيه فضوح؟!
كم رأينا من عزيز *** طويت عنه الكشوح
صاح منه برحيل *** طائر الدهر الصدوح
موت بعض الناس في الأ *** رض على بعض فتوح!

سيصير المرءُ يومًا *** جسدا مُا فيه رُوح
بين عيني كُل حي *** علم الـموت يلوح
كلنا في غفلة والدهـ *** ـر يغدو ويروح
لبنى الدنيا من الدنيـ *** ـا غبوق وصبوح

رحن في الوشي وأصـ *** ـبحن عليهن المسوح
كل نطَّاحٍ من الدهر *** له يومٌ نطوح!!
نُحْ على نفسك يا مسـ *** ـكين إن كنت تنوح
لتنوحنَّ ولو عمِّـ *** ـرت ما عمر نوح!


• قال أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر (ص/80-83): "قرأت هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ} [الأنعام: 46]؛ فلاحت لي إشارةٌ كدتُ أطيش منها!! وذلك: أنه إن كان عني بالآية نفس السمع والبصر؛ فإنَّ السمع آلةٌ لإدراك المسموعات، والبصر آلةٌ لإدراك المبصرات؛ فهما يعرضان ذلك على القلب، فيتدبَّر ويعتبر. فإذا عرضت المخلوقات على السمع والبصر أوصلا إلى القلب أخبارها من أنها تدلُّ على الخالق، وتحمِلُ على طاعة الصانع، وتحذِّر من بطشه عند مخالفته. وإن عني معنى السمع والبصر فذلك يكون بذهولهما عن حقائق ما أدركا؛ شُغلاً بالهوى، فيعاقب الإنسان بسلب تلك الآلات؛ فيرى وكأنه ما رأى، ويسمع وكأنه ما سمِعَ، والقلب ذاهلٌ عما يتأدَّب به!! فيبقى الإنسان خاطئاً على نفسه لا يدري ما يُراد به؛ لايؤثر عنده أنه يبلى، ولا تنفعه موعظةٌ تجلى، ولا يدري أين هو؟ ولا ما المراد منه؟ ولا أين يحمل يحملُ؟ وإنما يلاحظ بالطبع مصالح عاجلته، ولا يتفكَّر في خسران آخرته، لا يعتبر برفيقه، ولا يتَّعظ بصديقه، ولا يتزوَّد لطريقه!! كما قال الشاعر:



الناس في غفلةٍ والموت يوقظهم *** وما يفيقون حتى ينفدَ العُمر
يشيِّعون أهاليهم بحمعهم *** وينظرون إلى ما فيه قد قُبِروا
ويرجعون إلى أحلام غفلتهم *** كأنهم ما رَأوا شيئاً ولا نَظروا

وهذه حال أكثر الناس؛ فنعوذ بالله من سلب فوائد الآلات؛ فإنها أقبح الحالات".

- قال أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي رحمه الله أيضاً في صيد الخاطر (ص/25): "تأملت التحاسد بين العلماء فرأيتُ منشأَهُ من حُبِّ الدنيا؛ فإنَّ علماء الآخرة يتوادُّون ولا يتحاسدون؛ كما قال الله عزوجل: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا} [لحشر: 10]. وقد كان أبو الدرداء يدعو كل ليلةٍ لجماعةٍ من أصحابه. وقال الإمام أحمد بن حنبل لولد الشافعي: أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل ليلة وقت السحر. والأمر الفارق بين الفئتين: أنَّ علماء الدنيا ينظرون إلى الرئاسة فيها، ويُحبُّون كثرة الجمع والثناء. وعلماء الآخرة بمعزلٍ من إيثار ذلك، وقد كانوا يتخوَّفونه، ويرحمون من بُلِيَ به. وكان النخعي لا يستند إلى سارية! وقال علقمة: أكره أن توطأ عقبي! وكان بعضهم إذا جلس إليه أكثر من أربعةٍ قام عنهم! وكانوا يتدافعون الفتوى، ويحبُّون الخمول. مثل القوم كمثل راكب البحر، وقد خبَّ؛ فعنده شغلٌ إلى أن يوقن بالنجاة. وإنما كان بعضهم يدعو لبعضٍ، ويستفيد منه لأنهم ركبٌ تصاحبوا فتوادَّوا. فالأيَّام والليالي مراحلهم إلى سفر الجنة. ا.هـ.

- قال الإمام الحُجَّة أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم رحمه الله بواسع رحماته، في كتابه (مداواة النفوس- الأخلاق والسير: ص/66): "من امتحن بالعجب فليفكِّر في عيوبه. فإن أعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة. فإن خفيت عليه عيوبه جملة؛ حتى يظن أنه لا عيب فيه فليعلم أن مصيبته إلى الأبد، وأنه أتم الناس نقصاً، وأعظمهم عيوبا، وأضعفهم تمييزاً. وأول ذلك أنه ضعيف العقل جاهل، ولا عيب أشد من هذين! لأن العاقل هو من ميَّز عيوب نفسه؛ فغالبها، وسعى في قمعها. والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه؛ إما لقلة علمه وتمييزه وضعف فكرته، وإما لأنه يقدر أن عيوبه خصال، وهذا أشد عيب في الأرض. وفي الناس كثير يفخرون بالزنا واللياطة والسرقة والظلم؛ فيعجب بتأتي هذه النحوس له، وبقوته على هذه المخازي. واعلم يقيناً أن لا يسلم إنسي من نقص؛ حاشا الأنبياء صلوات الله عليهم. فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط، وصار من السخف والضعة والرذالة والخسة وضعف التمييز والعقل وقلة الفهم؛ بحيث لا يتخلف عنه متخلف من الأرذال، وبحيث ليس تحته منزلة من الدناءة! فليتدارك نفسه؛ بالبحث عن عيوبه، والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها، وعن عيوب غيره التي لا تضرَّه لا في الدنيا ولا في الآخرة. وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة إلا الاتعاظ بما يسمع المرء منها؛ فيجتنبها، ويسعى في إزالة ما فيه منها، بحول الله تعالى وقوته. وأما النطق بعيوب الناس فعيب كبير، لا يسوغ أصلاً، والواجب اجتنابه؛ إلا في نصيحة من يتوقَّع عليه الأذى بمداخلة المعيب، أو على سبيل تبكيت المعجب فقط في وجهه، لا خلف ظهره، ثم يقول للمعجب: ارجع إلى نفسك، فإذا ميَّزْتَ عيوبها، فقد داويت عجبك. ولا تمثل بين نفسك وبين من هو أكثر عيوباً منها؛ فتستسهل الرذائل، وتكون مقلداً لأهل الشر، وقد ذُمَّ تقليد أهل الخير؛ فكيف تقليد أهل الشر؟! لكن مثل بين نفسك وبين من هو أفضل منك؛ فحينئذ يتلف عجبك، وتفيق من هذا الداء القبيح، الذي يولد عليك الاستخفاف بالناس!! وفيهم بلا شك من هو خير منك!! فإذا استخففت بهم بغير حق استخفوا بك بحق!؛ لأن الله تعالى يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]. فتولد على نفسك أن تكون أهلاً للاستخفاف بك، بل على الحقيقة مع مقت الله عز وجل، وطمس ما فيك من فضيلة... واعلم أن كثيراً من أهل الحرص على العلم يجدون القراءة والإكباب على الدروس والطلب، ثم لا يرزقون منه حظاً!؟! فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه، فصح أنه موهبة من الله تعالى، فأي مكان للعجب ها هنا؟!! ما هذا إلا موضع تواضع، وشكر لله تعالى، واستزادة من نعمه واستعاذة من سلبها. ثم تفكر أيضاً في أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلم، ثم من أصناف علمك الذي تختص به، فالذي أعجبت بنفاذك فيه أكثر مما تعلم من ذلك، فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك، واستقصاراً لها فهو أولى. وتفكَّر فيمن كان أعلم منك؛ تجدهم كثيراً، فلتهن نفسك عندك حينئذ. وتفكر في إخلالك بعلمك، وأنك لا تعمل بما علمت منه؛ فلعلمك عليك حجة حينئذ، ولقد كان أسلم لك لو لم تكن عالماً.
واعلم أن الجاهل حينئذ أعقل منك وأحسن حالا وأعذر فليسقط عجبك بالكلية. وإن أعجبت بجاهك في دنياك فتفكر في مخالفيك وأندادك ونظرائك، ولعلهم أخساء وضعفاء سُقَّاط؛ فاعلم أنهم أمثالك فيما أنت فيه، ولعلهم ممن يستحيا من التشبه بهم؛ لفرط رذالتهم وخساستهم، في أنفسهم وأخلاقهم ومنابتهم؛ فاستهن بكل منزلة شاركك فيها من ذكرت لك".

- شعرٌ: قال الأول:


إذا وُعِظ السفيه جرى إليه *** وخالف، والسفيه إلى خلاف!

-وقال آخر:


لا تفكِّر في همومٍ سلفا *** وتفكَّر في ذنوبٍ سلفت
واترك الآمال واطلب توبةً *** أدرك النفس وإلاَّ تلفت!

- وقال آخر:


وواعظٌ ينصح الناس بالتقى *** طبيبٌ يداوي الناس وهو عليلُ!

- قال بعض الناس:


عِشْ خامل الذكر بين الناس وارض به *** فذلك أسلمُ للدنيا وللـدينِ
مَـن عـاشر النتاس لم تسلم ديانتـه *** ولم يزل بين تحريكٍ وتسكينِ


- قال الإمام ابن القيِّم في مدارج السالكين (1/524): "... الدرجة الثالثة: حفظ الحرمة عند المكاشفة، وتصفية الوقت من مراءاة الخلق، وتجريد رؤية الفضل. أما حفظ الحرمة عند المكاشفة: فهو ضبط النفس بالذل، والانكسار عند البسط، والإذلال الذي تقتضيه المكاشفة؛ فإن المكاشفة توجب بسطاً، ويخاف منه شطح إن لم يصحبه خشوع يحفظ الحرمة. وأما تصفية الوقت من مراءاة الخلق: فلا يريد به أنه يصفي وقته عن الرياء؛ فإن أصحاب هذه الدرجة أجل قدراً، وأعلى من ذلك. وإنما المراد: أنه يخفي أحواله عن الخلق جهده؛ كخشوعه وذله وانكساره؛ لئلا يراها الناس، فيعجبه اطلاعهم عليها، ورؤيتهم لها؛ فيفسد عليه وقته وقلبه وحاله مع الله. وكم قد اقتطع في هذه المفازة من سالك، والمعصوم من عصمه الله. فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل وأنه لا شيء وأنه ممن لم يصح له بعد الإسلام حتى يدعي الشرف فيه. ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من ذلك أمراً لم أشاهده من غيره. وكان يقول كثيراً: ما لي شيء، ولا منّي شيء، ولا فيَّ شيء. وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت:


أنا المكدّى وابن المكدّى *** وهكذا كان أبي وجدي

وكان إذا أثنى عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدِّد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلامًا جيدًا. وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطِّه، وعلى ظهرها أبياتٌ بخطه، من نظمه:



أنا الفقير إلى رب البريـَّات *** أنا المسكين في ملظلوم المشرك العاتي
والحمد لله ملء الكونِ أجمـعـهِ *** ما كان منه وماجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي *** والخير إن يأتنا من عنده ياتي

لا أستطيع لنفسي جلب منفعة *** ولا عن النفس لى دفع المضراتِ
وليس لي دونه مولى يدبـرني *** ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي
إلا بإذن من الرحمن خالقـنا *** إلى الشفيع كما جاء في الآياتِ

ولستُ أملك شيئاً دونه أبـداً *** ولا شريك أنا في بعض ذراتِ
ولا ظهـير له كي يستعـين به *** كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لي وصف ذاتٍ لازمٌ أبداً *** كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي

وهذه الحال حالُ الخلقِ أجمعهم *** وكلهـم عنـده عبدٌ له آتي
فمن بغى مطلباً من غير خالقـهٍ *** فهو الجهول ا من بعد قد ياتي


وأما تجريد رؤية الفضل: فهو أن لا يرى الفضل والإحسان إلا من الله؛ فهو المانُّ به بلا سبب منك، ولا شفيع لك تقدم إليه بالشفاعة، ولا وسيلة سبقت منك، توسلت بها إلى إحسانه". ا.هـ.

- أخرج الآجري في (أخلاق العلماء: ص/77-78) بسنده إلى مطر الورَّاق قال: "سألت الحسن (هو البصري) عن مسألة؛ فقال فيها. فقلت: يا أبا سعيد.. يأبى عليك الفقهاء ويخالفونك. فقال: ثكلتك أمك يا مطر!! وهل رأيت فقيهاً قط؟! وهل تدري ما الفقيه؟! الفقيه: الورِع الزاهد، الذي لا يسخر ممن أسفل منه، ولا يهمز من فوقه، ولا يأخذ على علمٍ علَّمه الله حطاماً". وبسنده عن عمران المنقري قال: "قلت للحسن يوماً في شيءٍ قاله: يا أبا سعيد.. ليس هكذا يقول الفقهاء. قال: ويحك! أوَ رأيت أنت فقيهاً قط؟! إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير في أمر دينه، المداوم على عبادة ربّه".

- قال الشاعر:


يقولون فيك انقبـاض، وإنما *** رأو رجلاً عن موقفِ الذلِ أحجما
أرى الناس مَن داناهمُ دان عندهم *** ومن أكرمته عزَّة النفس أُكرما
ولم ابتذل في حرمة العلم مهجتي *** لأخدم مَن لاقيت لكن لأُخدما

أأشقى به غرساً وأجنيـه ذِلَّةً؟؟ *** إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أنَّ أهل العلم صانوه صانهـم *** ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّما
ولكن أهانوه فهان ودنَّســوا *** مـحيَّاه بالأطماع حتى تجهَّمـا


- أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء (2/271): بسنده... عن محمد بن سيرين: أنه سمع رجلا يسب الحجاج؛ فأقبل عليه، فقال: مَهْ!!، أيها الرجل؛ فإنك لو قد وافيت الآخرة كان أصغر ذنبٍ عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج، واعلم أنَّ الله تعالى حكَمٌ عدل؛ إن أخذ من الحجَّاج لمن ظلمه، فسوف يأخذ للحجَّاج ممن ظلمه؛ فلا تشغلن نفسك بسب أحد. وبسنده عن عبد الله بن السرى قال: قال ابن سيرين: إني لأعرف الذنب الذي حمل عليَّ به الدين ما هو؟! قلت لرجل من أربعين سنة: يا مفلس. فحدّث به أبا سليمان الداراني؛ فقال: قلَّتْ ذنوبهم، فعرفوا من أين يُؤْتَون، وكثرت ذنوبي وذنوبك فليس ندري من أين نؤتى. وبسنده عن أبي عوانة قال: رأيت محمد بن سيرين في السوق؛ فما رآه أحد إلا ذكر الله تعالى.

- قال ابن الجوزي في صيد الخاطر (ص/128-129): "ينبغي لكل ذي لبٍّ وفطنةٍ أن يحذر عواقب المعاصي؛ فإنه ليس بين الآدمي وبين الله تعالى قرابةٌ ولا رحم، وإنما هو قائمٌ بالقسط، حاكمٌ بالعدل. وإن كان حلمه يسع الذنوب؛ إلاَّ أنه إذا شاء عفا؛ فعفا كلَّ كثيف من الذنوب، وإذا شاء أخذ، وأخذ باليسير؛ فالحذر.. الحذر. ولقد رأيت أقواماً من المترفين كانوا يتقلَّبون في الظلم والمعاصي الباطنة والظاهرة؛ فتعبوا من حيث لم يحتسبوا؛ فقلعت أصولهم، ونُقِضَ ما بَنَوْا من قواعد أحكموها لذراريهم. وما كان ذلك إلاَّ أنهم أهملوا جانب الحق عز وجل، وظنوا أنَّ ما يفعلونه من خيرٍ يقاوم ما يجري من شرٍّ؛ فمالت سفينة ظنونهم؛ فدخلها من ماء الكيد ما أغرقهم. ورأيت أقواماً من المنتسبين إلى العلم أهملوا نظر الحق عز وجل إليهم في الخلوات؛ فمحا محاسن ذكرهم في الجلوات؛ فكانوا موجودين كالمعدومين، لا حلاوة لرؤيتهم، ولا قلب يحنُّ إلى لقائهم!

فالله الله في مراقبة الحقِّ عزوجل؛ فإنَّ ميزان عدله تبين فيه الذرة، وجزاؤه مرصدٌ للمخطئ ولو بعد حين؛ وربَّما ظنَّ أنه العفو، وهو إمهالٌ! وللذنوب عواقب سيئة. فالله.. الله.. الخلوات.. الخلوات.. البواطن.. البواطن. فإنَّ عليكم من الله عيناً ناظرة! وإياكم والاغترار بحلمه وكرمه؛ فكم قد استدرج وكونوا على مراقبة الخطايا مجتهدين في محوها، وما شيءٌ ينفع كالتضرَّع ن مع الحمية عن الخطايا؛ فلعلَّه...! وهذا فصلٌ إذا تأمَّله المتعامل لله تعالى نفعه. ولقد قال بعض المراقبين لله تعالى: قدرت على لذَّةٍ هي غايةٌ، وليست بكبيرة؛ فنازعتني نفسي إليها؛ اعتماداً على صغرها، وعظم فضل الله تعالى وكرمه. فقلت لنفسي: إن غلبت هذه فأنتِ.. أنتِ، وإذا أتيت هذه فمن أنتِ؟!، وذكَّرتها حالة أقوامٍ كانوا يفسحون لأنفسهم في مسامحةٍ كيف انطوت أذكارهم، وتمكَّن الإعراض عنهم؛ فارْعوَت ورجعت عمَّا همَّت به، والله الموفقِّ".

• قال ابن القيِّم في مدارج السالكين (3/266-270): "فصل: المرتبة الثامنة من مراتب الحياة: حياة الفرح والسرور، وقرة العين بالله: وهذه الحياة إنما تكون بعد الظفر بالمطلوب الذي تقر به عين طالبه؛ فلا حياة نافعة له بدونه، وحول هذه الحياة يدندن الناس كلهم، وكلهم قد أخطأ طريقها، وسلك طرقاً لا تفضي إليها بل تقطعه عنها؛ إلا أقل القليل؛ فدار طلب الكل حول هذه الحياة وحرمها أكثرهم. وسبب حرمانهم إيَّاها: ضعف العقل والتمييز والبصيرة، وضعف الهمة والإرادة؛ فإن مادتها بصيرة وقَّادة، وهمة نقَّادة، والبصيرة كالبصر؛ تكون عَمَىً، وعَوَراً، وعمشاً، ورمداً، وتامة النور والضياء. وهذه الآفات قد تكون لها بالخلقة في الأصل، وقد تحدث فيها بالعوارض الكسبية. والمقصود أنَّ هذه المرتبة من مراتب الحياة هي أعلى مراتبها؛ ولكن كيف يصل إليها من عقله مَسْبِيٌّ في بلاد الشهوات؟! وأمله موقوف على اجتناء اللذات؟! وسيرته جارية على أسوأ العادات؟! ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات؟! وهمَّته واقفة مع السفليات؟! وعقيدته غير متلقَّاة من مشكاة النبوات؟! فهو في الشهوات منغمس، وفي الشبهات منتكس، وعن الناصح معرض، وعلى المرشد معترض، وعن السراء نائم، وقلبه في كل واد هائم. فلو أنه تجرَّد من نفسه، ورغب عن مشاركة أبناء جنسه، وخرج من ضيق الجهل إلى فضاء العلم، ومن سجن الهوى إلى ساحة الهدى، ومن نجاسة النفس إلى طهارة القدس لرأى الإِلف الذي نشأ بنشأته، وزاد بزيادته، وقويَ بقوَّته، وشرف عند نفسه، وأبناء جنسه بحصوله، وسد قذىً في عين بصيرته، وشجاً في حلق إيمانه، ومرضاً مترامياً إلى هلاكه.

فإن قلتَ: قد أشرت إلى حياة غير معهودة بين أموات الأحياء، فهل يمكنك وصف طريقها؛ لأصل إلى شيء من أذواقها، فقد بان لي أن ما نحن فيه من الحياة حياة بهيمية، ربما زادت علينا فيها البهائم بخلوِّهَا عن المنكرات والمنغِّصات، وسلامة العاقبة. قلتُ: لعمر الله إن اشتياقك إلى هذه الحياة، وطلب علمها، ومعرفتها لدليلٌ على حياتك، وأنك لست من جملة الأموات!

فأول طريقها: أن تعرف الله، وتهتدي إليه طريقا يوصلك إليه، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة؛ فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكلِّيَتِه، ويزهد في التعلُّقات الفانية، ويدأب في تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة، ثم يقوم حارساً على قلبه؛ فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله، ولا بخطرة فضولٍ لا تنفعه؛ فيصفو بذلك قلبه عن حديث النفس ووسواسها؛ فيُفْدَى من أسرها، ويصير طليقاً. فحينئذ يخلو قلبه بذكر ربه ومحبته، والإنابة إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه، إلى فضاء الخلوة بربه وذكره؛ كما قيل:


وأخرج من بين البيوت لعلَّني *** أحدِّثُ عنك النفس بالسرِّ خاليا

فحينئذ يجتمع قلبه وخواطره، وحديث نفسه على إرادة ربه، وطلبه والشوق إليه. فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، واستولت روحانيته على قلبه؛ فجعله إمامه ومعلمه، وأستاذه وشيخه وقدوته؛ كما جعله الله نبيه ورسوله، وهادياً إليه. فيطالع سيرته، ومبادئ أمره، وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه؛ في حركاته وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته، ومعاشرته لأهله وأصحابه؛ حتى يصير كأنه معه، من بعض أصحابه! فإذا رسخ قلبه في ذلك فتح عليه بفهم الوحي المنزَّل عليه من ربه؛ بحيث لو قرأ السورة شاهد قلبه ما أنزلت فيه، وما أريد بها، وحظّه المختص به منها؛ من الصفات والأخلاق، والأفعال المذمومة؛ فيجتهد في التخلص منها كما يجتهد في الشفاء من المرض المخوف. وشاهد حظَّه من الصفات والأفعال الممدوحة؛ فيجتهد في تكميلها وإتمامها، فإذا تمَّكن من ذلك انفتح في قلبه عين أخرى؛ يشاهد بها صفات الرب جل جلاله؛ حتى تصير لقلبه بمنزلة المرئي لعينه؛ فيشهد علوَّ الربِّ سبحانه فوق خلقه، واستواءه على عرشه، ونزول الأمر من عنده؛ بتدبير مملكته، وتكليمه بالوحي...؛ فيشهد ربه سبحانه قائماً بالملك والتدبير؛ فلا حركة ولا سكون، ولا نفع ولا ضرَّ، ولا عطاء ولا منع، ولا قبض ولا بسط إلا بقدرته وتدبيره. فيشهد قيام الكون كله به، وقيامه سبحانه بنفسه؛ فهو القائم بنفسه المقيم لكل ما سواه.

فإذا رسخ قلبه في ذلك شهد الصفة المصحِّحة لجميع صفات الكمال، وهي الحياة؛ التي كمالها يستلزم كمال السمع والبصر والقدرة والإرادة والكلام.. وسائر صفات الكمال. وصفة القيومية الصحيحة المصحّحة لجميع الأفعال. فالحي القيوم: من له كل صفة كمال، وهو الفعَّال لما يريد. فإذا رسخ قلبه في ذلك فتح له مشهد القرب والمعية؛ فيشهده سبحانه معه غير غائب عنه، قريباً غير بعيد، مع كونه فوق سماواته، على عرشه، بائناً من خلقه، قائماً بالصنع والتدبير والخلق والأمر. فيحصل له مع التعظيم والإجلال الأنس بهذه الصفة؛ فيأنس به بعد أن كان مستوحشاً، ويقوى به بعد أن كان ضعيفاً، ويفرح به بعد أن كان حزيناً، ويَجِدُ بعد أن كان فاقداً. فحينئذ يجد طعم قوله: «ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه». فأطيب الحياة على الإطلاق حياة هذا العبد؛ فإنه محب محبوب متقرِّبٌ إلى ربِّه، وربُّه قريبٌ منه؛ قد صار له حبيبه؛ لفرط استيلائه على قلبه، ولهجه بذكره، وعكوف همته على مرضاته؛ بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله؛ وهذه آلات إدراكه وعمله وسعيه. فإن سمع سمع بحبيبه، وإن أبصر أبصر به، وإن بطش بطش به، وإن مشى مشى به. فإن صعب عليك فهم هذا المعنى، وكون المحب الكامل المحبة: يسمع ويبصر ويبطش ويمشي بمحبوبه وذاته غائبةٌ عنه فأضرب عنه صفحاً؟!! وخلِّ هذا الشأن لأهله:


خل الهوى لأناس يعرفون به *** قد كابدوا الحب حتى لان أصبعه


فإن السالك إلى ربِّه لا تزال همته عاكفةً على أمرين:
1- استفراغ القلب في صدق الحب.
2- وبذل الجهد في امتثال الأمر.
فلا يزال كذلك حتى يبدو على سرِّه شواهد معرفته، وآثار صفاته وأسمائه؛ ولكن يتوارى عنه ذلك أحياناً، ويبدو أحياناً؛ يبدو من عين الجود، ويتوارى بحكم الفترة. والفترات أمر لازم للعبد؛ فكل عامل له شرَّةٌ، ولكل شرَّةٍ فترةٌ".

- قال ابن الجوزي في صيد الخاطر (ص/133-134): "ليس في الدنيا ولا في الآخرة أطيب عيشاً من العارفين بالله عز وجل؛ فإنَّ العارف به مستأنسٌ به في خلوته. فإن عمَّت نعمته علم من أهداها، وإن مُرَّاً حلا مذاقه في فيه؛ لمعرفته بالمبتلي. وإن سأل فتعوَّق مقصوده صار مراده ما جرَّ به القدر؛ علماً منه بالمصلحة بعد يقينه بالحكمة، وثقته بحسن التدبير. وصفة العارف: أنَّ قلبه مراقبٌ لمعروفه، قائمٌ بين يديه، ناظرٌ بعين اليقين إليه؛ فقد سرى من بركة معرفته إلى الجوارح ما هذَّبها.


فإن نطقتُ فلم أنطق بغيركمُ *** وإنْ سكتُّ فأنتم عقد إضماري


إذا تسلَّط على العارف أذى أعرض نظره عن السبب، ولم يرى سوى المسبب؛ هو في أطيب عيش معه. إن سكت تفكَّر في إقامة حقِّه، وإن نطق تكلَّم بما يرضيه، لا يسكن قلبه إلى زوجةٍ ولا إلى ولد، ولا يتشبَّث بذيل أحد. وإنما يعاشر الخلق ببدنه، وروحه عند مالك روحِه. فهذا الذي لا همَّ عليه في الدنيا، ولا غمَّ عنده وقت الرحيل عنها، ولا وحشة له في القبر، ولا خوف عليه في المحشر. فأما من عدم المعرفة فإنه معثَّرٌ، لا يزال يضجُّ من البلاء؛ لأنه لا يعرف المبتلي. ويستوحش لفقد غرضه؛ لأنه لا يعرف المصلحة. ويستأنس بجنسه؛ لأنه لا معرفة بينه وبين ربِّه. ويخاف من الرحيل؛ لأنه لا زاد له، ولا معرفة بالطرق. وكم من عالم وزاهد لم يُرزَقا من المعرفة إلاَّ ما رُزِقَه العامِّي البطَّال، وربَّما زاد عليهما. وكم من عامِّيٍ رُزق منها ما لم يُرْزَقاه مع اجتهادهما؟! وإنما هي مواهب وأقسام: {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ}".

- لتذكير نفسي وإخواني؛ موعظة وجلاء لما في القلب: أخرج البخاري في صحيحه (3819)، من طريق سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم: أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائماً؛ فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في بردة؛ إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه. وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني. ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط. أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا؟! وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا؟! ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.

أبو عمر السمرقندي