عولمة الأفكار

منذ 2014-01-09

الاهتمامُ بتأمين الحدود والثغور ومراقبتها، من بين مهام الجند التي تتطلب عنايةً كبيرةً، واهتمامًا أكبرَ من طرف الدولة والقائمين على شؤونها، وهي بلا شكٍّ من متطلبات الأمن القوميِّ والوطني، ولا أحد يشكِّك في قدرات الجهة الوصية على ذلك، بل ربما مناقشة هذا الأمر ينبغي أن تكون من طرف المختصين وذوي الخبرة والشأن.


الاهتمامُ بتأمين الحدود والثغور ومراقبتها، من بين مهام الجند التي تتطلب عنايةً كبيرةً، واهتمامًا أكبرَ من طرف الدولة والقائمين على شؤونها، وهي بلا شكٍّ من متطلبات الأمن القوميِّ والوطني، ولا أحد يشكِّك في قدرات الجهة الوصية على ذلك، بل ربما مناقشة هذا الأمر ينبغي أن تكون من طرف المختصين وذوي الخبرة والشأن.

ولكن الذي يعنينا في موضوعِنا هذا، هو حدود العقل المفتوح على جميع الجبهات والأفكار، عقل قابل للتلقِّي والتشكيل، بلا رقابة ولا تقييدٍ، ولا حتى أدنى الْتفاتة من طرف جمارك الفكر والثقافة في البلاد.
وهذا الذي يحلو لي فيما بيني وبين نفسي أن أسميه بعولمة الأفكار، تلك الأفكار التي أصبحتْ بمقتضى هذه التقنية الحديثة تتنقل بلا تذكرةٍ ولا جواز سفر، تبيت في عقل وتقضي ليلها بين أحضانه، ثم لا تلبث غيرَ يسير حتى تأوي إلى زاوية في عقلٍ آخرَ تعربد على طريقتها النواسية، بلا تحفظات ولا حدود.

قد يستطيع الجمركي والجندي المرابط على الحدود والثغور أن يراقب الحقائبَ والجيوب، فيَمنع دخول سلاح أو كيس مخدرات، ويحول صاحبه إلى القضاء لينظر في أمره بالذي يقتضيه القانون، ولكنه عاجز عن أن يراقب العقول ويتحفظ على الأفكار؛ فحدودُ العقل المفتوحِ واسعةٌ رحبة رحابة هذا الفضاء من حولنا، والتحكُّم فيها مشكلة كبيرة، وخطرها أكبرُ من خطر طلقة في ليلة غُدَافيَّة الإهاب، سوداء الجلباب.

إنه ليحزنني أنْ أقرأ ما يُكتَب حول العولمة الأمنية والاقتصادية والسياسية، وحول الهيمنة الأمريكية في المنطقة العربية، ثم لا تجد من يبسط القول حول عولمة الأفكار، وكيف ينبغي ترشيدها أو التحكم فيها. أنا لا أفهم الصراع على الأرض كما يصوره مفكر البنتاغون الأول (صموئيل هنتنغتن)، على أنه صراع بين حضارتين وبين تحالفين: إسلامي كونفوشيوسي من جهة، وغربي نصراني من جهة أخرى -وإنْ بدا لأول وهلة أن في ذلك شيئًا كبيرًا من الصواب- أو أنه صراع من أجل منابع النفط بين القُوى العُظمى في الأرض، أو صراع البقاء من أجل رغيف الخبز والماء، ولكنني أفهمه على طريقتي الخاصة؛ على أنه صراع الأفكار في ميدان العقل البشري، صراع يكون فيه البقاء لمن يستطيع أن يستحوذ على العقول ويملك زمامها؛ فلا تَسُود فكرةٌ، إلا بزوال الأخرى.

والرجل -صراحةً- عندما قرَّر الذي قرره، كان ينطلق من هذا المفهوم، وهو بلا شك يقصده ويرمي إليه، ويعد له توطئةً تتقبَّلها العقولُ والأفهام أولاً، ثم تكون واقعًا ملموسًا في صدام الحضارات، الذي كان مثار جدل كبير في أوساط المثقفين منذ بداية الألفية الثالثة وإلى يومنا هذا. لقد أثبتت التجارِب أن قوة الكلمة وقوة الفكرة هي التي تَسُود على الأرض، عندما تتحكم في العقول ويصبح لديها شيء من القَبول التلقائي أولاً، ثم لا تلبث حتى تصبح حقيقةً ومسلَّمةً من المسلَّمات، من الصعب ترشيدُها وتوجيهها.

إن الذين ناقشوا مثلاً ظاهرة الربيع العربي وأسبابه، ربما تطرَّقوا إلى جميع الأسباب التي أدتْ إلى انفجار الشارع؛ فقيل: "إنها ثورة من أجل رغيف خبز يابس"، وقيل: "إنها ثورة من أجل رفع الضيم والظلم عن الشعوب"، وقيل: "إنها ثورة من أجل الديمقراطية"، وقيل:...، وقيل:...، وقيل:... لكنهم تغافلوا -ربما من هول الحدث- أو لم يتنبهوا إلى أن عولمة الأفكار كان لها دورٌ بارز في انتشار الظاهرة كالنار في الهشيم من المحيط وإلى الخليج، كما أنهم لم يتنبهوا إلى أن أوروبا وأمريكا كانتا بمعزل عن تلك الظاهرة. فهل يعقل أنه لا يوجد ظلم، ولا فقر، ولا ضيم في القارتين؟

إن الإنسان في العالم المتحضر -كما يسميه بعض الحداثيين والتغريبيين- يعيش عيش البهائم، ولا يساوي عقب سيجارة هناك، وحقوق الكلاب محفوظةٌ أكثر من حقوق الآدميين، فلماذا كانت أوروبا بمعزل عن بركان الربيع العربي؟ بل حتى ذلك الكيان الغريب -إسرائيل- الذي يتوسط كبد العالم العربي، ظلَّ بمأمن من الانفجار. إن السر في اعتقادي ليس كما يذهب إليه بعضُ المحللين للظاهرة، من تلك الأطروحات التي تُرجِع الأمرَ إلى الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية، ولكنَّ السرَّ يكمن في تلك الأفكارِ التي تم تسريبُها في صمت -بطريقة ما، وبشكل مدروس- إلى عقول الجيل الحاضر، فوجدت لها مكانًا من القَبول في العقول في غفلةِ عينٍ من جمارك الأفكار.

قد يعتقد البعض أن مثل هذا الكلام هو دعوة صريحة إلى التضييق على حرية الفكر والإعلام، ومحاصرة العقول وقصفها، ولكنني أستطيع بثقة كبيرة، وجرأةٍ أكبرَ أنْ أقول: إن الأمر على العكس من ذلك تمامًا، إن هذا الكلام هو دعوة موجَّهة إلى ذوي الشأن في البلاد، إلى عدم ترْك الساحة الفكرية بلا رقيب، ولا يعني ذلك أبدًا مصادرة الحريات العامة، بل يجب تشكيل جبهة جمركية فكرية؛ لتوضيح الأفكار وفرزها، وتِبيان صحيحها من سقيمها، بنفس الطريقة ونفس الشكل الذي يتعامل معه المحدِّثون في تصفية التراث الإسلامي.

إنك لتقرأ في كتب الآثار والتاريخ مثلاً، من الأخبار والأحاديث الشيءَ الكثير، وفيها: الصحيح، والضعيف، والحسن، والموضوع، ومع ذلك استطاع علماء الحديث أن يُصَفُّوا ذلك كله بدون حظر ولا منع ولا تضييق، وكنت أتساءل في وقت مضى وأقول في نفسي: ما دام الأمر كذلك، فلماذا لا يتم حذف كل الأحاديث الضعيفة والموضوعة من كتب الآثار والحديث، فلا يبقى مع الأيام إلا صحيحُها؟ ولكنني أدركت فيما بعد كم كنت ساذجًا يوم أن فكرت في ذلك، إن الأمر لا يسلم أنْ يأتي يومٌ على الناس، فيطلع علينا غيرُ واحد قد يجد من يصدِّقه فيدَّعي أن ذلك تم بأمرٍ من سلطة أعلى للتمويه وإلغاء الطرف الآخر؛ فيبرر الحذف بمصالحَ سياسيةٍ أو طائفية... ثم لا نحير له بعد ذلك جوابًا.

ما زلت أعتقد جازمًا أن الحفاظ على وَحدة الوطن ووحدة الأمَّة لا يكون فقط بالحفاظ المادي على حدود التراب والطين، بل بالحفاظ على حدود العقل وثقافة الأمة وأفكارها، وتصفيتها مما علِق بها من الشوائب التي لا تمت بصلةٍ إلى مفاهيمنا كأمة عربية مسلمة.

إن الذين يعتقدون أن الحضارة تقف عند حدود العمران والرقي المادي، الذي تراه العين فيخطف الأبصار، ولا تتجاوزه إلى حدود العقل والروح أولئك واهمون لم يستوعبوا الدرس بعدُ، ولم يفقهوا مفهوم الحضارة جيدًا في زمن عولمة الأفكار.
والله المستعان.


سراي علي بن أحمد


 

  • 2
  • 0
  • 1,320

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً