الجزء المفقود من الجزء الأول من المصنف(2)

ملفات متنوعة

  • التصنيفات: الحديث وعلومه -

بيان الشيخ محمد زياد بن عمر التكلة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى لما ختم الشرائع برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأتم نعمته علينا، ورضي الإسلام للناس دينا: لم يترك دينه هملاً، بل حفظ هذا الدين من التحريف والتبديل، فحفظ كلامه المنزل: القرآن الكريم، فلا يُزاد حرفٌ فيه ولا ينقص.

وحفظ سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فجعل الكذب عليه من أعظم الموبقات، ففي الحديث المتواتر: «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»، وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن كذبا عليّ ليس ككذب على أحد».

وسخّر الله للسنّة عبر الأزمان نخبة الأمة في الديانة والعلم والعقل، تنفي عنها كذب الكاذبين، بل وأوهام الصادقين، فلا يمكن أن يسري حديثٌ يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت عنه إلا بيّنوه وحذروا منه، عبر قواعد متينة هي غاية ما بلغه العقل البشري من طرق التوثيق والتحقيق.

وما زال أهل الباطل على أنواعه يحاولون الدسّ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنصرة أهوائهم الباطلة، أو لدعوة الناس للزندقة، فما أسرع أن ينكشفوا ويفضحهم الله عز وجل، وينقلب إليهم بصرهم خاسئا وهو حسير.

وقال سفيان الثوري: " لو همّ رجل أن يكذب في الحديث وهو في جوف بيت لأظهر الله عليه ".
وروي معنى ذلك عن عبد الرحمن بن مهدي وابن معين وغيرهما.

وقال سفيان بن عيينة: " ما ستر الله عز وجل أحداً يكذب في الحديث " .

وثبت عن ابن المبارك رحمه الله أنه سئل: هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة، ثم قرأ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].

واقتداءً بمنهج أئمة الحديث في كشف الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ودفاعاً عن السُّنّة، ونُصحاً لعموم الأمة؛ كانت كتابة هذه الكلمات، مستعيناً بالله سبحانه، سائلاً إياه الأجر والمثوبة.

فقد صدر مؤخراً كتابٌ كُتب عليه: (الجزء الأول من المصنف للحافظ الكبير أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني)، بتحقيق عيسى بن عبد الله بن محمد بن مانع الحميري، وتقديم محمود سعيد ممدوح، الطبعة الأولى 1425هـ-2005م، دون ذكر للناشر، في مجيليد في 105 صفحات، منها 44 صفحة لمتن الكتاب.

وبتأمل الكتاب يتبيّن جلياً أنه كتاب مكذوب مفترى؛ أُلصق زوراً وبهتاناً بالحافظ عبد الرزاق رحمه الله، وإنما افتُعل ونُشر لما في متونه من آراء منحرفة وأباطيل مدسوسة، مثل إثبات أولية النور المحمدي، وجملة خرافات أخرى.

أما الأسانيد فقد رُكِّبت كيفما اتفق لتبدو كأنها من رواية عبد الرزاق فعلا، ولكن الممارس لكتب الحديث يعلم بطلانها وتركيبها بمجرد النظر، كيف إذا قرن معها المتون المنكرة ذات المخالفات الشرعية والتراكيب الأعجمية؟ ودرس النسخة المزعومة للكتاب؟

وإزاء ذلك فقد وجب كشف هذا الكذب الصراح؛ الذي فيه تشويه صورة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والدسّ في دينه ما ليس منه، والله المستعان. مع العلم بأن جميع من عرفتُه علم بالكتاب جزم بوضعه، مثل الشيخ سعد الحميّد، والشيخ عبد القدوس محمد نذير، والشيخ خالد الدريس، والشيخ عمر الحفيان، والشيخ بندر الشويقي، والشيخ صالح العصيمي، والشيخ أحمد عاشور، والشيخ سعد السعدان، والشيخ عبد الوهاب الزيد، وغيرهم.

إن مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني -المتوفى سنة (211) رحمه الله تعالى- من أهم وأقدم وأكبر مصادر السنّة النبوية، ويحتوي على عدد كبير من الأحاديث المرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وعدد أكبر من الآثار عن الصحابة والتابعين.

وقد طُبع هذا المصنف كاملاً بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي عن عدة نسخ خطية، وهي بمجموعها تكمّل الكتاب إلا قليلا من أوله ووسطه، فيبدأ الكتاب من باب غسل الذراعين من كتاب الطهارة، ويظهر أن السقط أول الكتاب لا يتعدى الورقة أو الورقتين، وفرح أهل العلم عامة، وأهل الحديث خاصة: بظهور هذا الكتاب العظيم للاستفادة منه.

أما غيرهم من أهل الأهواء فكان يهمهم من خروج الكتاب شيء آخر! ألا وهو البحث عن حديث مكذوب عُزي خطأً لمصنف عبد الرزاق، ألا وهو حديث: "أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر" بطوله، فظنّوا -لجهلهم بالسُّنّة وكتبها- أنه يُمكن أن يكون الحديث في المصنّف فعلا! وبالطبع فلم يجدوه فيه!

ولما لاحظوا وجود السقط اليسير في أول المصنف المطبوع، تعلقوا بالأماني وأن يكون حديثهم في القدر الساقط من المصنف! وكأن حديثهم سيكون في أبواب الطهارة وإزالة الحدث! وبحثوا عنه في شتى خزائن المخطوطات العالمية دون جدوى.

من هنا ارتأى بعض من هانت عليه نفسه من أهل الأهواء أن يستغل وجود النقص، ويكمله بما يناسب هواه! وكان من ذلك: الحديث المكذوب المذكور آنفا، فدسّه وغيره من الأباطيل في الكتاب على أن ذلك من القدر الساقط منه!

ولما فرغ من وضعه أعطاه لمن يروج عنده ذلك الكذب والهوى، ألا وهو كاتب هذا الكتاب عيسى مانع الحميري، فما أسرع أن انطلى عليه وتبنّاه، وكان ذاك الحديث الموضوع هو السبب في إخراج الحميري للكتاب!

فقال أول مقدمته (ص5 و6): "فقد كثر الجدل حول صحة حديث جابر، ذلك الحديث الذي ضمنه كثير من أهل السير كتبهم وعزوه إلى مصنف عبد الرزاق مجرداً عن الإسناد، وقد اجتهد ساداتنا أهل العلم.. في البحث عن حديث جابر في مظانه المختلفة".

وذكر أنه كلّف أناساً بالبحث عن تتمة الكتاب في مكتبات تركيا، كما بحث الباحثون في اليمن؛ دون جدوى، ثم قال (ص6 و7): "وقد بات هذا الأمر شغلي الشاغل، أبحث عنه هنا وهناك، مع الدعاء المتواصل في الأيام المباركات، وفي مهابط الرحمات، مع عباد الله الصالحين، وبالأخص عند النبي الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم في الروضة المباركة، والمواجهة الشريفة، حتى أتحفنا الله بالعثور على تلك النسخة اليتيمة، أو بالأحرى الجزء الأول والثاني من مصنف عبد الرزاق، على يد أحد الصالحين من بلاد الهند، وهو أخونا في الله الفاضل الدكتور السيد محمد أمين بركاتي قادري حفظه الله".

ثم قال: "ومن توفيق الله عز وجل أننا عثرنا في هذه النسخة على حديث جابر مسنداً.. وتبين لنا بعد ذلك صحة الحديث الذي يرويه عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سألت رسول الله عن أول شيء خلقه الله تعالى، فقال: هو نور نبيك يا جابر.. الحديث.

فثبت لدينا بأن سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أول مخلوق في العالم (!) أي أول روح مخلوقة، وآدم أول شبحية مخلوقة، إذ أن آدم مظهر من مظاهره صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بد للجوهر أن يتقدمه مظهر، فكان آدم متقدما بالظهور في عالم التصوير والتدبير، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مقدما في عالم الأمر والتقدير، لأنه حقيقة الحقائق، وسراج المشارق في كل المغارب! وما حديث جابر إلا تفسير لآية المشكاة..."! انتهى كلام الحميري


وقد ثبت أن المخطوط مزور وليس من كتابات القرن العاشر -وإن كُتب عليه ذلك، وجاهد الحميري لتثبيته- فمن الواضح للعارف أن كاتبه خطاط معاصر هندي، وخطه من جنس خطوط الطبعات الحجرية في القرن الماضي في الهند، وطريقة كتابة الحروف تؤكد ذلك.