(3) صناعة الرجال

راغب السرجاني

ولماذا يعتقد بعض المسلمين أنه من المستحيل أن نفعل مثلما يفعل الصحابة، أو نفكر مثلما كانوا يفكرون، أو نعبد الله عز وجل كما كانوا يعبدون؟

  • التصنيفات: قصص الصحابة - سير الصحابة -

تحدثنا من قبل عن القابضين على الجمر، والقابضون على الجمر هم المسلمون الذين يتمسكون بدينهم في زمان كثر فيه الشر، وانتشرت فيه المعاصي، وتعددت فيه الفتن، القابضون على الجمر هم الذين يسيرون في طريق الصحابة حتى بعد ألف وأربعمائة سنة أو أكثر من انتهاء جيل الصحابة، القابضون على الجمر أجرهم ليس كأجر صحابي واحد، بل يأخذ أجرهم أجر خمسين صحابيًا.

وعلى النقيض من هذه الطائفة الرائعة من المسلمين، هناك طائفة أخرى من المسلمين تعاني من مشكلة هي في الحقيقة خطيرة، وهي مشكلة الإحباط من إمكانية تقليد جيل الصحابة، أو التعامل معه كقدوة عملية نستطيع أن نتشبه بهم، فيوجد من يأخذ كخمسين صحابي، ويوجد المُحْبَط الذي لا يعرف أن يقلد صحابيًا واحدًا.

ولماذا يعتقد هؤلاء المسلمون أنه من المستحيل أن نفعل مثلما يفعل الصحابة، أو نفكر مثلما كانوا يفكرون، أو نعبد الله عز وجل كما كانوا يعبدون؟

 

لماذا يوجد هذا الإحساس في نفوس بعض المسلمين؟

هناك أربعة أسباب ذكرناهم من قبل، هم باختصار:

1- الاعتقاد بأن وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم حتميًا للوصول إلى هذا المستوى الراقي عند الصحابة، ذكرنا أن وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هامًا جدًا، لكنه ليس حتميًا لتطبيق شرائع الدين، وإلا لما أمر الله عز وجل اللاحقين بنفس التكاليف التي أمر بها الصحابة.

2- الخروج بالصحابة عن دائرة البشرية، والحديث عنهم بشيء من المبالغة التي تؤدي إلى استحالة التطبيق.

3- الاعتقاد بأن كل الصحابة تفوقوا في كل المجالات بصورة واحدة، ونسيان أن كل صحابي قد تفوق في مجال من المجالات، وتفوق عليه غيره في مجال آخر، ولم تستطيع كإنسان أن تحصل إنفاق أبي بكر، مع إدارة عمر، مع جهاد خالد، مع علم عائشة، مع فقة عبد الله بن عباس، مع حياء عثمان، مع قضاء علي، مستحيل، الناس التي تنظر للجيل كله كوحدة واحدة، صعب عليها أن تقلد كل الجيل، إنما تقلد واحد، من تشعر بأن إمكانياتك، وقدراتك، ومواهبك، موافقة للمجال المتفوق فيه.

4- تعمد بعض العلماء إغفال أخطاء الصحابة الناتجة عن كونهم من البشر، والبشر جمعيًا يصيبون ويخطئون.

وقد أغفل العلماء الأخطاء بنية طيبة حرصًا على تنزيه الصحابة، لكن هذا الإسلوب من التربية أدى إلى اعتقاد أن الصحابة لا يخطئون أبدًا، وبالتالي إذا أخطأ المسلم الآن فإنه يحبط في أن يصل يومًا ما إلى ما وصل إليه الصحابي.

 

فهذه أربعة أسباب أدت إلى إحساس بعض المسلمين، أو كثير من المسلمين، أنهم من الصعب جدًا أن يقلدوا الصحابة.

والبعض لا يفعل كثير من الطاعات، فإذا ذكرته بصحابي ما، كان يفعل كذا وكذا، يحتج بأنه ليس من الصحابة، وأنه ليس عبد الله بن عمرو، ولا أبا ذر، والبعض يرتكب المنكرات، فإذا ذكرته بصحابي تغلب على شهوته، وامتنع عن المنكر، قال: أنا لست بصحابي، هو كان صحابيًا، لا أنا أبو بكر، ولا أنا عمر.

الحقيقة أن هذا شيء خطير أن يفتقد المسلمون قدوتهم الصالحة، شيء خطير أن يعتقد المسلمون أن هذه القدوات قدوات غير عملية، أو أن اتباعها ضرب من الخيال.

 

بدايتك وبداية الصحابي

نتكلم هنا عن سبب خامس وهام جدًا أدى إلى اعتقاد كثير من المسلمين إلى استحالة تقليد الصحابة، وعندما نعالج هذا السبب في اعتقادي سيؤدي إن شاء الله إلى خير كثير، اعتقد أن بعد علاج هذا السبب كثير منا سيكون عنده أمل في الوصول إلى ما وصل إليه الصحابة إن شاء الله.

هذا السبب هو أن كثير من المسلمين يأخذ قصة الصحابي من نصفها، يبدأ دراسة حياة الصحابي منذ لحظة إسلامه، يغفل تماما الفترة التي عاشها الصحابة قبل أن يكونوا صحابة، ينسى كيف كان الصحابي قبل أن يصير إلى ما صار إليه.

 

وإذا درست حياة الصحابي كوحدة متكاملة، درسته في جاهليته، ثم درسته في الإسلام، قرأت عن أخلاقة قبل الهداية، وأخلاقه بعد الهداية، علمت أهدافه وطموحاته قبل أن يمُنّ الله عز وجل عليه بهذا الدين، وقارنتها بأهدافه وطموحاته بعد أن أصبح مسلمًا، إذا فعلت ذلك علمت إن شاء الله أن الوصول إلى ما وصل إليه الصحابة ليس بمستحيل؛ لأن كثير من الصحابة بدءوا بدايات أصعب بكثير من بداياتنا.

فأنت طوال حياتك ما سجدت لصنم، أو عبدت شجرة، لم يكن كل المسلمين مدمني خمر قبل الهداية، لم يظل كثير من المسملين سنوات لا بأس بها من عمره يُعذب ويَقْتل المؤمنين.

أنت لست من قبيلة بينها وبين قبيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عداء طويل، وقديم، ومستحكم، يصدك عن الإيمان.

كثير منا بدايتهم فعلًا أفضل بكثر من بدايات الصحابة، فإذا كان الصحابة الذين بدءوا هذه البدايات الشاقة وصلوا إلى هذه الدرجة، فمن البديهي أن الذي بدأ من درجة أفضل يستطيع أن يصل إلى ما وصلوا إليه، بشرط أن يسير في نفس الطريق.

 

الإسلام يصنع الإنسان

ببساطة شديدة إن الذي غَيّر الصحابة، ونقلهم هذه النقلة الهائلة من عُبّاد الحجر إلى قواد البشر، من أزل الناس إلى أعز الأولين والآخرين، من أمة لا يؤبه بها، ولا يعتد برجالها، ولا نسائها، ولا يعتد بوجودها أصلًا إلى أمة تسود البلاد، والعباد، وتبني حضارة ما عرف التاريخ مثلها أبدًا، ولم يكن ذلك في ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، بل في سنوات معدودات، فهذا الدين، الإسلام الذي غيرهم كتاب ربنا سبحانه وتعالى، الذي نقلهم اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أعزهم هذه الكلمة الخالدة العظيمة الثقيلة جدًا لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يقول للناس كثيرًا ومرارًا وتكرارًا: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ، وتملكوا العرب وتذل لكم العجم» (دفاع عن الحديث للألباني: [20]). وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قال الكلمة بصدق ملك العرب والعجم.

 

قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما والحديث في مسند أحمد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ».

 

كلمة ثقيلة جدًا، والقرآن الكريم كتاب عجيب، كتاب معجز، لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].

تخيل نفسك تحمل كتابًا لا يستطيع أهل الأرض جميعًا على اختلاف علومهم، وخبراتهم، وفنونهم، ومعارفهم، وبلادهم، وأزمانهم، لا يستطيعون الإتيان بمثله، فهو كتاب معجز، وإعجازه متجدد، وإعجازه متعدد: إعجاز لغوي، إعجاز بلاغي، إعجاز علمي، إعجاز تاريخي، إعجاز تشريعي، إعجاز غيبي يخبرك بما يحدث، وما سيحدث ليوم القيامة، هذا إنباء العليم القدير سبحانه وتعالى.

 

فيه أنواع مختلفة ومتعددة من الإعجاز، لكن تبقى معجزة القرآن الكبرى، ومعجزة الإسلام العظمى هي صناعة الإنسان، شتان بين الرجل قبل إسلامه، وبعد أن يسلم، وكأنك جئت برجل جديد تمامًا، حيث اختفت الذلة، اختفت السلبية، اختفت الأنانية، اختفت الغلظة، اختفت حقارة الأهداف، وتفاهة الطموح، اختفت كل هذه المظاهر المنكرة، وظهر خلق جديد اسمه الإنسان، لقد أصبح الإنسان إنسانًا بعد إسلامه، قبل الإسلام الإنسان كان مفتقدًا لأهم شيء يميزه كأنسان، كان يفتقد عقله.

 

ولقد وصف ربنا سبحانه وتعالى من لم يؤمن، ومن لم يعرف كلمة التوحيد، ومن لم يوجه حياته كلها لله رب العالمين، بقوله عز وجل في كتابه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].

فكل من لا يعرف الله، ولا يشغل باله بشرع، أو دين، ولا إسلام، لا يستحق لقب إنسان، مهما كان شكله جميلًا، أو لبسه فخم، أو أمواله كثيرة، أو سلطانه ضخم عظيم، مهما تحرك، وأكل، وتكلم كالإنسان، لكن فَقَد أغلى نعمة عند الإنسان، فَقَد الدليل على إنسانيته، فقد العقل الذي يختار به طريق الله عز وجل {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].

 

فالإنسان قبل الالتزام بهذا الدين، وكأنه ميت موتًا حقيقيًا، وإن كان ظاهرًا يقوم، ويقعد، ويمشي، ويتحرك، ويأكل، ويشرب، لكنه ميت، ميت القلب، ميت الإحساس، ميت المشاعر، ميت العقل، ميت الغاية، ميت الهدف، جماد، ميت.. ليس له أي قيمة.

ثم بعد الالتزام بالإسلام تدب فيه الحياة، فجأة الإنسان يولد من جديد، الإنسان بعث من جديد، الإنسان أصبح إنسانًا. نورت في عينيه الدنيا، وأصبح يرى بعد سنوات، وسنوات من الظلام، ويصف الله سبحانه وتعالى في كتابه هذه الحالة فيقول: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122]. كيف يسلم الإنسان، وينتقل من الكفر إلى الإيمان؟

 

كيف ينتقل من لا إنسانية إلى الإنسانية؟

طريقة رائعة اختارها سبحانه وتعالى لعباده إذا أرادوا أن يخرجوا من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام.

الخطوة الأولى:

من أراد الدخول في هذا الدين فأول ما يفعله أن يغتسل، وليس المقصود من الاغتسال التطهر من نجاسات الجسد الخارجية، أو المتعلقات الظاهرة من الخارج، فالاغتسال له معنى جميل جدًا، فالماء وهو نازل فوق رأس الإنسان ويغمر الجسد كله ينظفه من كل متعلقات الكفر، والرذيلة، وهذه بداية جديدة. فلا بد من أن تدخل على البداية الجديدة طاهر القلب، ونظيف الجسد.

الخطوة الثانية:

وبعد أن تطهر نفسك من الرذائل، وجسدك من النجاسات ما ظهر منها وما بطن، تلبس الملابس الطاهرة، وهذه أيضًا بداية جديدة.

الخطوة الثالثة:

ثم يقول بلسانه وقلبه وجوارحه وكل ذرة في كيانه: أشهد أن لا إله الله، الكلمة ثقيلة: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله  صلى الله عليه وسلم، فبذلك أصبحت مسلمًا، وولدت من جديد، وبعثت من جديد، الآن وبعد هذه الكلمة أصبحت إنسانًا.

الخطوة الرابعة:

وبعد كل هذا عليك بمقابلة من أسلمت نفسك له الله رب العالمين، وببساطة شديدة صل ركعتين، وقل له: يا رب لقد رجعت لك بعد سنوات من الهروب، أتقرب منك بعد سنوات طويلة من البعد.

وستقرأ القرآن أعظم نعمة التي تجعل من الإنسان إنسانًا، ومن غير قرآن لن يكون هناك إنسان، لهذا قدم الله سبحانه وتعالى نعمة القرآن، على نعمة خلق الإنسان فقال: {الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرَّحمن:1-2] ثم قال: {خَلَقَ الإِنْسَانَ} [الرَّحمن:3]. فلن يكون إنسان من غير قرآن.

هل هي صناعة الإنسان في الإسلام، وهذا هو الإسلام.

 

سؤال أطرحه عليكم: هل أسلمنا الإسلام الحقيقي؟

أعرف أننا جميعًا لدينا أسماء إسلامية، وكلنا وُلدنا مسلمين. ألا تتمنى أن تبدأ بداية كبداية الصحابي الذي اغتسل وطهر الثياب، وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى ركعتين ثم باع نفسه بعد ذلك كلية لله عز وجل؟

 

ماذا يعني الإسلام؟ ولمَ سمي الإسلام إسلامًا؟ هو إسلام لمن؟ أليس الإسلام أن تسلم لله رب العالمين؟

معنى الإسلام الكامل لله رب العالمين أن تسلم نفسك له، فلا يفقدك حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك، تقف عند حدوده، تنفذ أوامره، تجتنب نواهيه، هذا هو الإسلام.

قال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71]. وقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112].

والمسلم الذي يسلم إسلامًا صحيحًا لا يجادل في أوامر الله عز وجل، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

معنى الإسلام أن تحوطه من جميع جوانبه، وتأخذه كلية، لا تأخذ جانبًا وتترك فيه جوانب، ألا تقدم أمرًا على أمر الله ورسوله، وليست لدينا فرصة للاختيار من أوامر الله عز وجل، ومن أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، أو قواعد الإسلام {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].

أما من أسلم حياته لشهوته، أو أسلم حياته لمنصبه، أو أسلم حياته لزوجته، وأولاده، أو أسلم حياته لماله، فليس بالمسلم الذي أراده الله عز وجل، كثير من الناس ترتكب كل المنكرات، ولما تُذَكّرها يحتج بأنه ضعيف، وعبد المأمور، وهو الذي قال لي: اعمل كذا ولا تفعل كذا.

 

شيء جميل أن تكون صادقًا مع نفسك، فأنت عبد للمأمور، ولست عبدًا حقيقيًا لله عز وجل، وراجع نفسك يوم القيامة، فكل نفس بما كسبت رهينة، وكل إنسان سيحاسب بمفرده، المأمور بمفرده، وعبد المأمور يحاسب لوحده، ولن تُعْذَر يا أخي في أنك لم تسلم لله عز وجل إسلامًا حقيقيا كإسلام الصحابة.

 

هذه هي الخطوة التي غيرت الصحابة، فبدايتهم كانت صعبة، صعبة جدًا، أصعب من بدايات معظمنا، لكنهم فهموا الدين كما ينبغي أن يُفْهم، فكان الصحابة كما عرفناهم.

ولنرى بعض النماذج من الصحابة كيف كانوا قبل الإسلام ومن ثم كيف صاروا بعد أن أسلموا أنفسهم لله تعالى.

 

عمر بن الخطاب قبل الإسلام وبعده

عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، شخصية من أروع الشخصيات في تاريخ الإنسانية كلها، رجل تجسدت فيه كل معاني الكمال البشري، ولا يأخذك العجب من كلمة الكمال، فقد أخبر الرسول صورة أن كثير من الرجال قد كمل، وفي رواية في الترمذي وقال: حسن صحيح. وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل عن أبي موسى الأشعري قال: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ».

بمعنى أنه استكمل الفضائل التي تكون موجودة في الرجال، كل الفضائل التي موجودة في الرجال، من عقيدة، وتقوى، وإخلاص، وأمانة، وعدل، وقوة، وتواضع، وزهد، وذكاء قيادة، شخصية متكاملة متوازنة، شخصية نادرة.

واستخدِم كل وسائل التنقيب، والتفتيش، وحاول أن توجِد مثله في أمة كأمريكا، أو أمم كاملة كأوروبا، أو أمة كاملة مثل الصين، أو اليابان، أو روسيا، اختر كما تريد منهم، مستحيل، فمستحيل أن تجد واحد على عشرة منه، أو واحد على مائة، أو واحد على ألف من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ابحث في كل الأمم من حولك، ولن تجد، وليس هذا الكلام مبالغة، إن هذا أقل من الواقع بكثير.

 

فعمر بن الخطاب رضي الله عنه لو وُزِن بأمة الإسلام نفسها، لا أمريكا، ولا روسيا، ولا الصين، لو وزن بأمة الإسلام لرجحها، إذا خلا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، لو وزن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في كفة، والأمة في كفة بما فيها عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وحمزة، وخالد، وسعد، وكل الصحابة، كل المهاجرين، وكل الأنصار، ومن جاءوا من بعدهم، كالبخاري، ومسلم، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وعلماء الطب، والهندسة، والفلك، والكيمياء، بما فيها المجاهدين، والعلماء، والدعاة، والصالحون، وكل الأمة، يرجح بهم عمر، وهذا الكلام ليس بكلامي، لكنه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء بأكثر من رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل عن أبي أُمامة رضي الله عنه وأرضاه في حديث طويل جاء فيه، قال صلى الله عليه وسلم: «وَجِيءَ بِعُمَرَ، فَوُضِعَ فِي كِفَّةٍ، وَجِيءَ بِجَمِيعِ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُضِعُوا فَرَجَحَ عُمَرُ».

 

نحن نتكلم عن رجل أسطورة، شخصية نادرة تمامًا، ولكن من هو عمر بن الخطاب قبل إسلامه؟

وما هو تاريخ هذه الشخصية النادرة في تاريخ الأرض؟

وكيف كانت بداية هذا العملاق؟

وهل بدايته كبدايتنا أم أصعب من بدايتنا؟

عمر بن الخطاب ظل أكثر من نصف حياته يسجد للأصنام، يقدم فروض العبادة لهبل، فعمر وُلد بعد عام الفيل بـ (13) سنة، فهو أصغر من الرسول صلى الله عليه وسلم بـ (13) سنة، وكان عمره وقت البعثة (27) سنة، وأسلم بعد ستة سنوات كاملة من الرسالة، فكان عمره عند الإسلام 33 سنة في أصح الروايات، وروايات أخرى تقول كان عنده 26 سنة، ومات رضي الله عنه وهو عند 63 سنة، فقضى 33 سنة من عمره كافر، و30 سنة مؤمن، ومن ضمن سنوات الكفر ستة سنوات كاملة، وهو يعيش مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بلد واحد صغير "مكة"، ومع ذلك يصر على كفره، يصر على إنكاره لوحدانية الله عز وجل، يصر على عبادة الأصنام، نعم هذا هو عمر قبل أن يقول: لا إله إلا الله.

ولم يكن عمر كافرًا عاديًا، بل كان من أشد الكفار غلظة، كان يعذب جارية بني مؤمل، وبني مؤمل أحد فروع قبيلة عمر، بني عدي، فكان يعذب هذه الجارية من الصباح إلى المساء، ثم يتركها بالليل، ليس رحمة، ولكن يقول: والله ما تركتك إلا ملالة من التعذيب.

كان هذا عقل عمر الذي قَبِل أن يسجد لصنم، يطلب منه، ويرجوه، ويخاف منه، ويعتمد عليه، وهو نفس عقله بعد إسلامه، عرف الله سبحانه وتعالى كما لم يعرفه كثير من الخلق، هذا هو العقل الذي كان يدير دولة ضخمة رهيبة، تكسر شوكتي فارس والروم، وتملك المشرق والمغرب.

ما الذي أحدث في عقل عمر؟

إنها شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله التي تخلق إنسانًا جديدًا.

وقلب عمر الذي قَبِل أن يجلد بالسوط امرأة مسكينة ضعيفة؛ لأنها آمنت بالله وحده، ما نقم منها عمر إلا أنها آمنت بالله العزيز الحميد، هو نفسه قلب عمر بعد أن نطق بكلمة الإسلام، فأصبح يخاف خوفًا غير طبيعي على كل مسلم في الأرض، يعرفه، أو لا يعرفه، كان يقول لقادة جيشه: "لا تدخلوا بجيش المسلمين في غيضة، فإن رجل من المسلمين أغلى عندي من مائة ألف دينار".

ويقول هذا الكلام وهو صادق، فعمر بن الخطاب الحريص على هذه الدولة الشاسعة، هو نفسه الذي كان يعذب الجارية التي آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنت بالله وحده قبل سنوات قليلة جدًا من إسلامه.

 

فنقطة البداية عندنا لا شك أفضل من نقطة بداية عمر رضي الله عنه وأرضاه، فنحن لم نسجد للأصنام نصف حياتنا، ولم نلهب بالسياط أجساد المؤمنات.

وعمر قبل إسلامه كان حريصًا على صد أخته عن الإسلام، وتعرفون قصة إسلامه، وعمر بعد إسلامه كان حريصًا على إدخال أهل الأرض جميعًا إلى هذا الدين، حتى لو أفقده ذلك حياته، وماله، ومنصبه، وكل ما يملك، تغير تمامًا، عمر الذي أراد أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ذهب لقتله فعلًا، هو هو، الذي رفض أن يقتل أبا لؤلؤة الماجوسي العبد الذي يعيش في المدينة المنورة، وتوعد عمر بالقتل، لكن عمر أمير المؤمنين رفض أن يقتله، أو يحبسه، فليست عنده قرينة قوية ضده، خشي أن يظلمه، وكانت النتيجة أن قُتل عمر على يده، عدل غير طبيعي، عدل مستغرب فعلًا بين البشر، هذا هو الكمال البشري الذي قصده الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث.

 

عمر الذي كره الرسول صلى الله عليه وسلم كراهية حملته على الاستخفاف بكل عقبات قتل الرسول، ونعرف أن الرسول من بني هاشم، وبنو هاشم قبيلة شريفة، وكبيرة، وستحدث مشاكل ضخمة في مكة، استخف بكل هذه العقبات؛ لأنه يكره الرسول كراهية شديدة جدًا، أما بعد إسلامه فأصبح يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ماله، وولده، والناس أجمعين، أكثر من نفسه التي بين جنبيه، هذا هو عمر بعد الإسلام، وهذا هو عمر قبل الإسلام.

الفرق بين العمريْن لحظة صدق واحدة، قرأ فيها صدر سورة طه، ثمان آيات فقط، وبعدها أسلم إسلامًا حقيقيًا، اغتسل، وطهر ثوبه، شهد شهادة الحق، وصلى ركعتين، ثم أصبح عمر العملاق، الأسطورة، أصبح الفاروق.

 

فمن أسهل في بدايته نحن أم عمر؟

لا شك أن بدايتنا أسهل، نحن لم نحاول قتل أحدًا فضلًا عن محاولة قتل رسول، عمر قرأ ثمان آيات فقط من صدر سورة طه، فسار عمر بعد أن قرأها، وبين أيدينا نحن الكتاب كله، الدستور كله، فهل من الممكن أن نعمل مثل عمر رضي الله عنه، لحظة صدق واحدة نغير فيها من مجرى حياتنا كلها.

وتخيل لو أن عمر بن الخطاب مات، وهو عنده ثلاثين سنة مثلًا، يعني قبل أن يسلم، فمَنْ مِنْ أهل الأرض كان سيسمع عنه، أي خلود كان سيحقق؟ وإلى أي مجد كان سيصل؟ وكيف يكون موقفه يوم القيامة؟

راجع حياة عمر قبل إسلامه، وقارن بينها بعد ما أسلم، بعد لحظة الصدق المجيدة، بعد كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، بعد تعظيم الهدف، وفهم حقيقة العبودية، وفهم الغاية من الخلق، وفهم حقيقة أن الذي خلق لا بد أن يحكم، بعد كل هذا انظر إلى عمر، أصبح ملء سمع الدنيا، وبصرها، أصبح مُلْهَم هذه الأمة، أصبح مُخَوّفًا لكل أعداء الله عز وجل، حتى الشيطان، نقلة هائلة انتقلها عمر، عندما قرر أن يسلم لله عز وجل، والقرار في أيدينا، إما أن تعيش على هامش الحياة بلا هدف، ولا طموح، وإما أن تنال شرف الدنيا والآخرة، وعز الدنيا والآخرة، ومجد الدنيا والآخرة، والقرار في النهاية في أيدينا.

 

عمرو بن الجموح كيف كان وإلى أي شيء صار؟

من كان يسمع عن عمرو بن الجموح قبل إسلامه، لا أحد يعرفه في الجزيرة العربية، عقليته كانت ساذجة، وبسيطة جدًا، ومحدودة جدًا، لدرجة أنه ظل سنين طويلة يسجد لصنم من خشب صنعه بيده، كان يسجد لهذا الخشب أكثر من ستين سنة يسجد لصنم صنعه بيده، ستين سنة، وهن العظم، وخط الشيب في الرأس، من المفروض أنه زاد حكمة كما يقال، لكن كبير جدًا في السن، وليس لديه عقل، يسجد لصنم خشبي، كان من الممكن أن يموت في أي لحظة، ويغلق الستار على حياة تافهة لا تساوي شيئًا في ميزان الناس، ولا في ميزان التاريخ ،ولا في ميزان الله عز وجل، لكن الله أراد له الهداية فآمن بعد الستين، وحدث انقلاب هائل في حياته، أو قل حدث انعدال هائل في حياته، ففطرته استقامت، وعقله المظلم استنار، وطموحاته التافهة الفارغة عَظُمت، كيف كان يفكر عمرو بن الجموح بعد الإسلام؟

 

عمرو بن الجموح كان فيه عرج شديد، ولذلك فهو معذور في عدم الجهاد، ومع ذلك لما تجهز المسلمون لغزوة أحد أصر عمرو بن الجموح أن يخرج مع المسلمين في الجهاد، حاول أبناؤه أن يمنعوه من الخروج، ولكنه ذهب يشتكيهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لديه عذر، وعذر بنص القرآن الكريم {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح:17] لكن ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا نبي الله، إن أبنائي يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير، وهم يتذرعون بأني أعرج، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة.

انظروا إلى الأهداف العالية، والطموحات السامية، قال رسول الله صورة لأبنائه: «دَعُوهُ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَرْزُقْهُ الشَّهَادَةَ» (فقه السيرة: [262]).

وهذه أمنية عمرو بن الجموح أن يموت في سبيل الله، وهي التي تمناها الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن الجموح، وهنا يرفع عمرو بن الجموح يده إلي السماء، ويقول: اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني إلى أهلي خائبًا.

فالغاية، والأمنية، والمطلب، والفوز أن يموت.

ما التغيير الذي حدث لعقل وقلب وجوارج عمرو بن الجموح رضي الله عنه؟

كيف تغير هذا التغيير الهائل؟

وقد ظل أكثر من ستين سنة في الكفر، ولم يمضِ عليه في الإسلام إلا ثلاث، أو أربع سنوات، وينمو فكره، وعقله بهذه الصورة.

لقد صنع الإسلام عمرو بن الجموح، فأصبح إنسانًا، بعدما عرف طريق الله عز وجل، أصبح يعيش حياة عظيمة، هي حياة الإنسان كما أراد الله عز جل {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] فخليفة الله عز وجل في الأرض ليس الذي يعيش حياة الكفر، والشرك، واللعب، والمعصية، والتفاهة، والفراغ، بل إن حياة الخليفة حياة جادة، حياة الخليفة حياة الإنسان، وكان ما أراده عمرو بن الجموح، مات شهيدًا، استشهد في غزوة أحد، لم يمنعه العرج من أن يقوم بشيء عجز عن القيام به كثير من الأصحاء.

فمن نقطة بدايته أسهل نحن أم عمرو بن الجموح؟

من منا مرت عليه ستون سنة، وقد طال عليه الأمد في أفكار قديمة خاطئة، لا يستطيع أن يغيرها؟

من منا قَبِل أن يسجد لخشب ستين سنة؟

من منا من هو شديد العرج ومع ذلك يشتاق إلى جهاد وإلى نضال وإلى شهادة؟

لا شك أن بدايتنا أسهل، لكن نحتاج إلى لحظة صدق، نحتاج إلى أن نقبل الإسلام بالمعني الذي يريده الله عز وجل، لا المعنى الذي تريده أهواؤنا، وشهواتنا، ورغباتنا، نفعل مثل سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131].

تسليم كامل، كل حياتك لله رب العالمين، هذا هو المسلم، وهو ما وصل بالصحابة.

 

مصعب بن عمير بين الفتى المدلل والشاب الشهيد

قبل أن يسلم مصعب بن عمير كان شابًا مُترفًا، فهو بلغة العصر الحديث مدلل، أمه من الأثرياء، تأتي له بملذات العيش من مكة، ومن خارج مكة، تَعوّد على الترف المستورد، الملابس من اليمن، العطور من الشام، ليس له هَمّ في حياته إلا البحث عن اللذة المادية، لا يشغل باله بما يحدث في الدنيا من حوله، لم يكن له في الدين والعلم والسياسة والحرب، ليس له شغل بمشاكل الناس، أو مشاكل الأمم، يعيش حياة فارغة تمامًا، ويوجد مثله شباب كثير، ليس لهم أي اهتمام إلا بلبسهم، وسيارتهم، والنادي المشترك فيه، والموبايل نوعه ورنته، فيه كاميرا، فيه ألوان، والدنيا تنقلب من حوله، وهو لا يدري، ومشغول ليل نهار بأغنية فيلم، مباراة، قصة شعر، شلة، سهرة، سيجارة، مجلة، ويظنون أنهم سعداء بهذه الأشياء.

مصعب بن عمير كان يعيش، ويحيا نفس هذه الحياة، ولكنه أسلم لله عز وجل، أسلم بالمعنى الذي قلناه، ومن جديد سبحان الله نقلة هائلة في كيان وتكوين الشخص، في كيان وتكوين مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، فجأة تحول الشاب المترف الماجن المدلل، إلى شاب صُلب، قوي، عملاق، ذي تقوى، وزهد، وعلم، وقوة، وتضحية، وفروسية، وحرمته أمة من كل الدنيا، ومن كل الحياة التي كان يحياها، لكن مصعب ذاق معنى السعادة الحقيقية، عرف أن السعادة الحقيقية ليست في لبس، أو أكل، أو عطر، بل السعادة الحقيقية في إحساسك أن لك قيمة، ولك هدف، ولك غاية، السعادة الحقيقية أن تعرف الله، وتعرف كيف تعبده، السعادة الحقيقية أن تجاهد في سبيل الله، أن تهاجر في سبيل الله، أن تضحي في سبيل الله، مقاييس السعادة تغيرت تمامًا في حياة مصعب، هاجر مرة والثانية إلى الحبشة، ثم ذهب إلى المدينة المنورة، وعَلّم أهلها الإسلام، أصبحت سعادته الكبرى أن يرى رجلًا ينتقل من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، حتى إن لم يعرف هذا الرجل.

 

ولم يكتف مصعب بالهجرة إلى الحبشة، ولم يكتف بتعليم الناس في المدينة ودعوتهم إلى الإسلام، ولم يكتف أنه كان سببًا مباشرًا في إسلام مدينة كاملة أصبحت عاصة للإسلام والمسلمين، لم يكتف بأنه نقل الدعوة من مرحلة إلى مرحلة أخرى تمامًا، لم يكتف بكل ذلك، أراد أن يذوق من كل أنواع السعادة في الإسلام، فذاق حلاوة العقيدة، وذاق حلاوة الأخوة، وذاق حلاوة الهجرة، وذاق حلاوة الدعوة، فأراد أن يذوق حلاوة الجهاد في سبيل الله، وهذه حلاوة لا يعرفها إلا من جربها وذاقها، هذه الحلاوة فيها مشاق، وفيها متاعب، لكن يستمتع بها من يقوم بهذه الأعمال، ليست لأنها فرض من الله سبحانه وتعالى، بل فيها استمتاع لا يقترب منه استمتاع الملبس، والمأكل، والمشرب، وكل لذات الدنيا.

خرج مصعب بن عمير في سبيل الله، خرج في غزوة بدر، وخرج في غزوة أحد، انظروا إلى الشاب مصعب بن عمير الذي كان شاب يعيش فعلًا على هامش التاريخ قبل أن يسلم، انظروا إليه في غزوة أحد وهو يحمل راية المسلمين، انظروا إليه بعد أن أصبح إنسانًا، انتقل من لا إنسانية إلى الإنسانية، مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين في أُحُد قاتل بضراوة، قاتل بإخلاص، حارب بثبات نادر، قطعت يده اليمنى، فأمسك اللواء بيده اليسرى، وقطعت يده اليسرى، وسقط مصعب على الأرض، لكنه أمسك الراية بعضديه، لم يسمح لها أن تسقط، لا يمكن أن تسقط راية الإسلام ومصعب ما زالت به حياة، راية الإسلام أصبحت قضية مصعب، خدمة الإسلام، ونصرة الإسلام، أصبحت أهداف وطموحات مصعب وإلى آخر نبضة قلب في حياة مصعب كان مصعب في سبيل الله، ومن أرض أحد إلى الجنة مباشرة، استشهد، ذهب إلى النعيم الحقيقي، فلا تساوي الدنيا بكل ما فيها من ملذات وشهوات بجوار لحظة في الجنة، النعيم المقيم، فما بالك بخلود بلا موت في الجنة.

فما رأيكم في حياة مصعب بن عمير؟

 

وهل نريد أن نحيا حياته أيام اللبس والعطر والمتعة والفراغ والفسحة والفرفشة، وكل حياته السابقة قبل الإسلام أم نعيش عيشته أيام الدعوة والتضحية والموت في سبيل الله؟

مصعب هو مصعب، الذي اختلف عنده، إسلامه لله غيره، الكتاب والسنة، والكتاب بين أيدينا، والسنة بين أيدينا، وعلينا نحن أن نختار.

 

قبيلة غفار

الأمثلة السابقة كانت لأفراد لامس الإيمان قلوبهم، فتغيروا، أما هذه القصة الغريبة جدًا، فهي قصة قبيلة كاملة لمس الإيمان قلوب أفرادها، فحدثت في حياتها النقلة الهائلة، هذه القبيلة اشتهرت بالسرقة، وقطع الطريق، فهم مجموعة من اللصوص، أبعد الناس عن طريق الهدى والصلاح، قبيلة غِفَار القبيلة التي منها الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، أبو ذر كان من أوائل من أسلم، وعاد إلى قبيلته يدعوهم إلى الإسلام، يدعوهم إلى ترك عبادة الأصنام، يدعوهم إلى أن يعبدو إلهًا واحدا لا إله إلا هو، ويدعوهم إلى ترك منهج الحياة التي كانوا عليها كلية، ويدعوهم إلى أن يسلكوا منهجًا مغايرًا تمامًا، سيغيروا كل شيء في حياتهم، وهذا الكلام ليس سهلًا، فبدلًا من أن يقطعوا الطريق على الناس، يدعوهم إلى أن تكون رسالتهم في الحياة أن يحفظوا للناس دينهم، وأموالهم، وحياتهم، بدلًا من أن يأخذوا من الناس أموالهم، سيدعوهم أن يعطوهم من زكاتهم، ومن صدقاتهم، يدعوهم إلى أنهم بدلًا من أن يمتلكوا قلوب الناس بالسطو على الناس بالقوة والبطش والظلم، يدعوهم لامتلاك قلوب الناس بالرفق، والدعوة، والحلم، والحب، هذه المعاني ما خطرت يومًا على فكر قبيلة غفار قبل ذلك.

فهذه مهمة صعبة جدًا، وفي غاية الخطورة على حياة أبي ذر نفسه، يذهب ليغير منهج قبيلة كاملة، قبيلة اعتادت السرقة وقطع الطريق، يدعوهم لحياة أخرى أفضل منها، وسيصر على موقفه رضي الله عنه وأرضاه، وفكروا أيضًا في قبيلة غفار، كيف لمجموعة من اللصوص تعودت على الشر، والإثم كل هذه العمر، ستغير حياتها كلها، وتنطلق إلى حياة أخرى نظيفة وجميلة، وسعيدة بسعادة الإسلام، ليس بسعادة الدنيا وفقط.

فمن المؤكد أن خطوة قبيلة غفار أصعب من كل خطواتنا، فليس لأحدنا هذه البداية الصعبة التي كانت عند قبيلة غفار، وفكر كيف دعا أبو ذر هؤلاء الناس؟

 

أبو ذر لم يُثْنِه تاريخ القبيلة أن يتحدث معهم في قضية الإيمان، فالقلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، آمنت قبيلة غفار، قبيلة كاملة أسلمت، ودخلت في الإيمان، آمن اللصوص وقُطّاع الطريق، وانتقلوا بإيمانهم هذا من درجة قطاع الطريق إلى درجة الصحابة، أصبحوا صحابة، وقبلها بلحظة واحدة كانوا قطاعًا للطريق، بعدها بلحظة واحدة أصبحوا من أفضل أجيال الخلق.

تمامًا كالذي ينتقل من الأرض إلى السماء، والفارق لحظة واحدة، لحظة صدق، كم واحد فينا له بداية أسوأ من بداية قبيلة غفار، أعتقد قليل منا، وحتى لو فينا واحد تاريخه كله سرقة، واحتيال، وإجرام بإمكانه أن يبتدئ بداية كقبيلة غفار، يكفي أن يعزم على التوبة، ويندم على ما فات، ويقرر ألا يعود للمعصية، يكفي ذلك، فتصبح صفحته نقية طاهرة بيضاء.

وانظر إلى التعليق النبوي الرائع على إسلام قبيلة غفار، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن عاص وأبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهم أجمعين، قال: «غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا».

كل الذي مضى مُحِي، فهل نريد حياة غفار قبل الإسلام أم حياة غفار بعد الإسلام؟

 

الله عز وجل عادل، لا يظلم مثقال ذرة، أعطى الإنسان عقلًا يستطيع أن يميز بين الخير والشر، وبين الصواب والخطأ، وأنزل له شرعًا سهلًا مفهومًا واضحًا جميلًا، وأعطاه فطرة سليمة تقبل الطيب، وتكره القبيح، وأعطى الإنسان بعد كل ذلك فرصة الاختيار، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] طريق الهداية، وطريق الضلال، طريق الخير، وطريق الشر، فكل شيء واضح، وتدبر في الكلام المعجز في كتاب الله عز وجل {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ} [الإسراء:18] الحاجة السريعة، الدنيا، اللذة السريعة، الشهوة، الثمرة، ولو كانت حرام، المتعة ولو كانت معصية، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] فمن أراد الدنيا نالها، ومن أراد معصية عملها، ومن تمنى حياة حقيرة ليس لها وزن أخذها، قد يرتفع أهل المعاصي، ويغتني أهل الذنوب، ويحكم أهل الظلم والشرور، لكن ما الوضع في الآخرة، يقول الله عز وجل في بقية الآيات: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18] يدخلها ممقوتًا مطرودًا من رحمة الله عز وجل.

 

فهذا فريق عاش حياته كلها بهذه الصورة، أراد العاجلة، وترك الآخرة، والفريق الثاني يقول فيه الله تعالى {وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ} [الإسراء:19] الذي تمنى الجنة، ولكن الرغبة وحدها لا تكفي، كلام اللسان ليس بكفاية، لا بد من العمل، والحركة، والسعي، {وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19] لا بد من عمل {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19] ، ويعلق الله على الموضوع فيقول: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20] فمن أراد الدنيا وترك الآخرة سيأخذ ما تمنى، والذي ير الآخرة، ولو كان على حساب الدنيا سيأخذها.

 

ما يهم الآن هو ما تحدده أنت، وتختاره، فالصحابي في لحظة الصدق التي أسلم فيها اختار بصدق، ومشى في الطريق الواضح بصدق، ووصل.

وينطبق علينا نفس الأمر، فلو عزمت على الوصول ستصل، فالله سبحانه وتعالى لا يظلم، وكلامه سبحان وتعالى كله حق، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] لا أحد، هو قال {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19].

فلو شغلت نفسك للآخرة تأخذها إن شاء الله، وهذا الكلام واضح لا يحتاج تأويل، أتريد الدنيا أم الآخرة؟ وكن صادقًا مع نفسك.

 

خلاصة القول: إن الصحابة لم يخلقوا صحابة، بل عاشوا قبل إيمانهم حياة بعيدة كل البعد عن مظاهر الإسلام، أو الالتزام، منهم من كان يعبد الحجر، أو الشجر، ومنهم من كان يسرق، ومنهم من كان يظلم، ومنهم من كان يشرب الخمر، ومنهم من كان يئد البنات، ومنهم من كان يعذب المؤمنين والمؤمنات، ثم عرض لهم طريق الخير، وطريق الشر بوضوح، وفي لحظة صدق اختاروا طريق الخير، وصاروا صحابة، وفي ونفس الوقت كان يعيش معهم كثير من الناس، في نفس الزمن، وفي نفس الظروف، وفي نفس البلد، ورأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم اختاروا طريق الشر، فساروا المشركين، والمنافقين، واليهود.

الإنسان هو الذي يختار، ليست عظمة الإنسان بكونه عاش في زمان معين، أو بكونه صاحب جاه، أو سلطان، أو مال، أو بكونه سليل فلان، أو فلان، أو غيره، بل عظمة الإنسان الحقيقية بكون تعظيم هذا الإنسان للدين، وبقدر حب الله عز وجل في قلبه، وبقدر قيمة الشرع في حياته، وبقدر إحترام الإنسان لنفسه كإنسان، هذا هو الإنسان في الإسلام.

 

وأسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقًا، ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وأن يحشرنا مع الأنبياء والصدقين، والشهداء، والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.