رسالة من طبيبة بغداد

ملفات متنوعة

استأصل الموت أكبادهم وذهب الخبر بعقولهم ، وراح الرعب يهز أوصال
الجميع ..كان لابد من أن يذهب أحد منا يومها لمعهد الطب العدلي للتعرف
عليه وخشينا على والدي من الخروج حينها؛ فكان الرأي أن أذهب أنا مع
أحد قريباتي للتعرف على الجثة

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

الموت والعذاب في أحراش بغداد
رسالة من طبيبة مسلمة


عندما يقف الإنسان عاجزاً ليواجه مصيره لحظة بلحظة، وعندما تتجرد الحياة من كل بهجتها لتستحيل حنظلا مُرّاً، و تثقل لحظاتها وتجثم على الكيان بأسره، وعندما يصبح الحاضر لحظات خوف ورهب تحرق الدماء في العروق و يصبح المستقبل ترقب وحيرة على الأهل والأحباب أيهما يخطفه الموت اولاً.

عندما تفقد كل معاني الحياة وتتبلد كل مشاعر الإنسان بداخلك فلا يبقى منها سوى الرعب والقلق والتفجع والحزن القاتل والصبر المرير، عندها فقط توقن أنك في العراق "الديمقراطي"، العراق "الحر" تلك الشعارات التي يثرثر حولها الصليبيون وأحفاد ابن العلقمي من الروافض الصفويين، "العراق" دار السلام كما أسماها أجدادنا، باتت اليوم دار الموت والقتل وغابة الذئاب والأوغاد، ومرتع اللصوص والفجار.

يبحث المرء في تلافيف التاريخ عسى أن يجد مثلاً لهذه المحنة الطاحنة في أرض الرافدين فلا يجد، عقمت أذهان الطغاة والمجرمين من قبل أن تبدع هذا الشر الذي صنعه الصليبيون والروافض في أرض الخلفاء، و لكن خذلان الصديق أشد من غدر العدو.

هذه محنتي لم يواسني فيها مسلم، وكأني لست منهم، اشتدت علي غربتي حين فقدت جميع من حولي، وتهت في غيابها حين فقدت أمتي وحين فقدت إحساسها بي وبمصيبتي وألمي.

*البداية:-

أنا امرأة عراقية في بداية الثلاثينيات من عمري؛ أم وزوجة وابنة وأخت، كان لي نصيب من حياة ناعمة هادئة يملؤها العلم ويصونها الدين، لكنها انتهت بسقوط بغداد في التاسع من نيسان للعام ألفين وثلاثة، يوم أن حلَ مغول العصر في بلد أبي جعفر المنصور مُعيدين أحداث التاريخ من جديد فهاهم أحفاد القتلة يدخلون عاصمة هارون الرشيد يعيثون فيها الفساد ناشرين الموت والقتل مستبيحين كل الحرمات والأعراض.

نهاية حياتي ابتدأت في ذلك اليوم، مع أول خط في لوحة الموت.

وقصة نهايتي واحدة من آلاف القصص التي انتهت بها حياة كثير من العراقيين؛ منهم من وضعها على الورق ظنّاً منه أنه يكتبها للتاريخ. أو صرخة منه ظنها توقظ سبات النائمين، لكنها تاهت في بين صرخات شتى انشق لعويلها كبد السماء و وما أنصتت لها أذن امرئ حُرّ.

والكثير منهم لم يكتبها وربما هؤلاء هم الأسعد حظا، لأنهم ذبحوا بسكين واحدة في مسلخ واحدة، قبل أن يذبحهم برود قومهم.

وأنا الآن أضع بعض حروف قصة نهايتي بين أيديكم لا أكتبها للتاريخ، ولا ارجوا من وراء قصتي انتزاع النخوة في عروق النائمين ولا استجدى بها دموعكم فأنا أعلم أنكم لا تتأثرون بالخطوب وأن سباتكم هذا لا صحوة منه وأعلم أن أمة اقرأ لم تعد تقرأ!! وأعلم أن الأجيال القادمة ستولد ميتة، لأنها من ظهور موتى، وأعلم أن ملياركم هو أصفار كثيرة، لم أكتب للتاريخ ولم أكتب لاستجدي دموعكم؛ فما أكثر النائحات في بلادي، كتبت لعلّي أتنفس على الورق بعد أن افتقدتُ من أتحدث إليهم، وربما كتبت استجابة لرغبة أحد الأصدقاء.

أنا أم لولدين كبيرهم في السابعة من عمره، طبيبة أطفال وزوجة لرجل جمعني به الحب والإخلاص منذ ارتباطنا، وابنة لطبيب جراح وأُخت لأخين وأُختين، لم تكن عائلتي ممن تقلد أي منصب مرموق؛ فقد كان لكل منا عمله الخاص، ولم يكن لأحد منا منصب متقدم في صفوف الحزب الحاكم، "حزب البعث العربي الاشتراكي"، كنَّا -كغالبية أبناء الشعب- أعضاءً بسطاء...

كانت لنا حياةٌ مستقرة هادئة، ما خُيِلَ لنا أو لأي أحد أننا سنكون في يومٍ ما مُستهدفين من قبل أي جهة وما خُيل لنا أن نجد من يحاربنا، كنَّا متعايشين كغالبية العراقيين مع أُناسٍ من مختلف أطياف البلد، لم نفكر يومًا أن هذا مسلم وهذا مسيحي ولا هذا سني وهذا شيعي، هذا عربي وهذا كردي وذاك تركماني، لم نفرق بين هذا وذاك، كان لنا أصحاب من كل طيف من أطياف البلد، ولاؤنا للعراق وعراقتنا في عراقنا، ومهما اختلفت الأطياف كنا نراهم عراقيين، عراقيين فقط دون تمييز.

ومع كوني تألمت حسرة ومت كمداً على أرض الخلافة وقد دنستها جيوش الصليبين وأتباعهم الأذلاء، مع أن هذا لم يكن سوى بداية الطريق.

وما هو إلا قليل حتى ناح الموت فوق بيتنا في الضاحية الهادئة وبدئت رحلتي مع الدموع والدماء بموت شقيقي الأكبر الذي يكبرني بسنوات قليلة كان إنسان معتدل بكل المقاييس، بشوشاً ودوداً، تملئه السماحة والمحبة، غُدِرَ به وهو في طريقه إلى محل عمله كان قتله بمثابة إنذار لنا لم ندرك معناه إلا بعد وقت ليس بقصير..

ما دار في خُلدي أنه قُتِل لأي سبب غير كونه كأي ذو كفاءة في خضم موجة من التصفيات الجسدية للأطباء والعلماء وكل حامل علم في بلادنا؛ بدافع من المستفيدين..

فقدت أمي يومها الوعي من هول الخبر وأخي الأصغر كاد يجن وظل يردد (لا مو صحيح أكيد غير واحد) لم أكن بينهم تلك اللحظات فقد وصلني الخبر عبر الهاتف وأنا في بيتي، أختي من اتصلت بي بعد أن عَلِمَت الخبر، وصلتُ إليهم فلم أجد من يبكي غير أختي الكبيرة كانوا في حالة من الذهول واللاوعي والحيرة.

استأصل الموت أكبادهم وذهب الخبر بعقولهم، وراح الرعب يهز أوصال الجميع..

كان لابد من أن يذهب أحد منا يومها لمعهد الطب العدلي للتعرف عليه وخشينا على والدي من الخروج حينها؛ فكان الرأي أن أذهب أنا مع أحد قريباتي للتعرف على الجثة، والتأكد منها واستلامها كان أول يوم في حياتي أتوشح بالسواد كثوب حزن ولم أكن أعلم أنه سيجر عليّ المصيبة تلو الأُخرى.. وكلما تذكرت تلك اللحظة الآن ، أتعجب من حكمة الله ورحمته، فوالله لو كشف لي الغيب وعملت ما يخبأ لنا لمت يومها رعبا وحزنا وهلعاً.

جلسنا ننتظر عرض صور الجثث لذلك الشهر والتي تعرض كلها يوميًا مرتين صباحًا وظهرًا، والمئات من الناس جالسين للتعرف على ذويهم المفقودين، هذه تحكي رواية خروج زوجها الذي لم يعد للبيت وتلك تولول قبل أن ترى صورة من يعنيها هذا يدعو وهذا يهذي من الغضب وهذه تلطم صدرها وذاك يتوعد، ناس كثيرة جمعهم هدف واحد لتجمُعّهم هذا هو التعرف على ذويهم القتلى.

رحت انظر مذهولة يالله كل هذه البيوت خربت، كل هذه البيوت ذاقت ألم الموت وعذاب الفراق وقسوة الصدمة، تحسست مكاني هل أنا هنا بينهم بالفعل؟!، وأنا الطبيبة ابنة الطبيب لكني لم أرى الموت من قبل بهذه الوحشية، كدت أشك في نفسي ، أتحسس جسدي نعم أنا هنا، في هذه الفاجعة الكبرى لأستلم جثة أخي الكبير.

رحت أتذكر هذا البريء الطاهر ماذا جنى لترتوي الأرض من دمائه الطاهرة، غدراً وخسة وهو الذي ما عرف يوما سوى النبل والوفاء أفيق على صراخ المكلومين، يضيق صدري وتخنقي دموعي، يضيق بي المكان حتى تتداخل ضلوعي، أهُمُّ للوقوف كي أغادر لكني سرعان ما أتذكر ذلك الجسد المسجي والذي ما عدت املك له سوى إكرامه بالدفن، أتذكر رثاء الخنساء لأخيها:

ولولا كثرة الباكين حولي ** على إخوانهم لقتلت نفسي
ولا يبكون مثل أخي ولكن ** اعزي النفس عنهم بالتأسي


طال الانتظار والموظف المسئول عن عرض الصور لم يحضر، تداهمني الخواطر السيئة ماذا لو أغمي عليّ في هذا المكان؟! ماذا لو سقطت من سيحملني حينها؟! فأنظر إلى من حولي فيشرد ذهني لأتذكر آخر أيام أخي فأتساءل تُرى ماذا نطقت لحظة موتك؟! أقلت آه يا أبتي أم قلت آآآآخ؟ ترى هل ضربوك من الأمام أم من الخلف؟! ترى ماذا جال في خاطرك آخر اللحظات؟ ترى هل جسدك كما هوَ أم آذوك بعد قتلك؟!

مادت بي الأرض وما وجدت نفسي إلا استند على من حولي.. وإذا بالموظف يقول ترتبوا والصورة تُعرَض مرة واحدة والجثة تُسلم بإبراز هوية الأحوال المدنية اللي تثبت فيها إنك أب أو أخ أو أم أو أخت أو ابن أو ابنة للمتوفى فقط.

مرت اللحظات كالدهر وبين خوف من رؤية الحقيقة وترقب للحظة تكريم لهذا الأخ الكريم وبين الأشلاء والدماء وأساليب التنكيل الوحشية الهمجية التي تمتلئ بها الصور رأيت صورة أخي؛ لم يطاوعني لساني أن انطق، يد قاسية تطبق على صدري، تعتصر ما تبقى في قلب من قطرات الحياة، لكني سرعان ما انتزعت الكلمات من حلقي، فقلت لقريبتي هذا فلان أخي فبدأت هي بالبكاء وكانت قد ميزته؛ فكانت ملامحه الودودة لا زالت واضحة جدًا، لم يكن من المنطق البكاء لحظتها؛ فقد كانت مهمتنا استلام الجثة والخروج من هذا المكان بأسرع وقت؛ فقلت للموظف هذه الصورة أعطيني رقمها فأعطاني رقمها فتوجهنا لغرفة الثلاجة حيث تُحفَظ الجثث، فقال لي الموظف المسئول (لازم يكون معاكم رجل) فأخبرته أني طبيبة ويمكنني الدخول فسمح لي فدخلت لأرى أخي من بين الجثث
كنت أدوس على الموت المنشر في ربوع بلادي كل الموت يجتمع ليبيت هنا، يحترق قلبي شوقا لرؤيته، لكنها رؤية مريرة إنها رؤية الوداع أخذت يده حينها، وتلمست قدماه كانت باردة، قرأت عليه أوائل سورة الرحمن وآيات أخرى لا أتذكر ما كانت.. قرأتها دون تركيز، لكن رأيت أن اقرأ له من القرآن شيئًا تلك اللحظة، ربما لم يكن بقصد الترحم عليه بقدر ما كانت بقصد الترحم عليِ أنا ومحاولة أخيرة للتماسك قبل الانهيار، أول مرة أقف عند ميت يعنيني، قبلّته ورتبت ما كان عليه من الملابس وطلبت من الموظف أن يكمل لي ورق استلامه، بينما أخرج لأستأجر سيارة لنقله إلى بيتنا فساعدني بعض عمال النظافة وحملوه إلى السيارة وتوجهنا إلي البيت فوجدت أبي وزوجي وأخي الصغير وبعض الأصدقاء والمعارف قد جاءوا واقفين في الباب ليأخذوا الجثة إلي مسجد قريب لتغسيلها بينما والدتي وأخواتي في الداخل فتلقوني بالأسئلة كان يجب أن أجيب على كل أسئلتهم أين ضُرِب هل وجهه مُشَوَه هل عيونه مفتوحة أم مغلقة هل ثيابه ممزقة وهل عُذِب أم لا؟ وكثير من أسئلتهم المتشابهة.. هكذا مات شقيقي الأكبر وما هي إلا أيام قلائل حتى قرر والدي ترك البيت ليعيش والِدَايّ وشقيقي الأصغر الذي لا يزال في الجامعة حينها في بيت آخر في منطقة أخرى من بغداد ونحن بدورنا انتقلنا إلى سكن آخر بالقرب من بيت أهلي.

عادت لنا بعض الحياة واحتسبنا الله في مصيبتنا ووالدي بين الصحة والمرض ودام الحال لا جديد فيه أكثر من عام ونصف العام تغيرت فيها حياتنا، انقطعنا فيها عن مواصلة الكثيرين من الأهل والأصحاب وما بقينا على اتصال إلا بالقليل منهم فغالبهم منشغلين بالترتيب للهجرة ومنهم من هاجر دون أن يترك حتى خبر عنه ومنهم من انشغل هو الآخر بمصيبة ما وما أكثرها في أرض الرافدين.. قاتل الله الحقد الأسود الذي ابتلع الأبناء وشتت العوائل ومزقنا فكان الكل يفتقد الكل والكل منشغل بما ألمَّ به والرعب دب في كل النفوس، حتى صارت حياتنا مسلسل من الخوف والألم والمصائب.

رغم كل الحزن لكنا عاودنا حياتنا الطبيعية محاولين جهدنا الابتعاد عن الكثير من الناس فَضلّتُ أن آخذ أجازة بدون راتب لحين استقرار الوضع وبالفعل حصلت عليها، وحاولت أن أُعيد الهدوء إلى بيتي وأولادي وأن أستعيد السعادة ولو داخل البيت كنت وزوجي نقضي أوقات نروي لأولادنا القصص، ونعدهم بأننا يومًا سنعود لبيتنا الأول وعدناهم بالكثير وعدناهم بما هو خارج عن مقدورنا وعدناهم بما ليس بأيدينا، حاولنا رسم الحياة الحالية لهم كأنه خطأ وسنصلحه قريبًا جدًا، وعدناهم بتغيير كبير ولم نحسب حساب أننا في صباح يوم من تلك الأيام سنصحو؛ لنجد أن رجاءنا لن يكتمل وأن أحلامنا بحياة هادئة لن تتحقق والسعادة التي نسعى لها تصطدم بصخرة الواقع الأسود الذي لم يرحمنا، صحونا لنجد رسالة تخويف لزوجي لم يكن فيها طلب بالرحيل، كما وصل للكثيرين فنحن حينها كنا نسكن في بيت وسط مدينة غالبيتها من أهل السنة الطائفة التي ننتمي إليها إن لم يكن كلها، لم نهمل الرسالة فكان الرأي أن يترك زوجي بغداد إلى إحدى المحافظات الشمالية وبالفعل كان ذلك وكان يزورني وأولادي بين الحين والآخر كان ذلك أول فراق بيننا، وما كنت أتخيل يومها أنه بداية لفراق أكبر!! .. هكذا دام حال اللا استقرار.

وتحولت حياتي وأولادي إلى أيام انتظار كنت فيها الأب والأم لهم، كان هو الغائب الحاضر رائحته تسري في دمي وصورته أمام عيني ووعوده لي بأنه لن يتركني باتت أملي الوحيد.

رحت اُمني أولادي بالوعود والأماني الحسنة، كنت أعدهم واعدهم حتى يخنقني البكاء، فأنسل من بينهم وأبكي شوقي وحنيني إلى زوجي، وعندما انفرد بنفسي أتذكر ضعفي وأنا امرأة وحيدة ضعيفة وسط أتون الحرب الملتهب، رباه كيف أواجه هذا الإعصار الهائج من الغدر والحقد، ماذا أفعل إذا دهمنا الأوغاد، رباه لا عاصم اليوم إلا من رحمت.

كنت أتحين تلك الساعات القليلة التي يزورنا فيها زوجي، لأقنص من وجوده الأمان، لأشعر بظلاله تحوطني وأبنائي، لأدفن رأسي في صدره الحنون.

التمس كفه ليشد عزمي ويمد صبري، كانت لحظات وجوده هي لحظات الحياة الوحيدة التي أنسى فيها القلق والخوف، كنت أنام بين يديه ملء عيني، لأني في غيابه لا اعرف النوم رعبا وفزعاً..

ثم اضطربت الأوضاع وأصبحت شوارع بغداد مليئة بشتى الميليشيات، الكل ينتابه الخوف بسبب فرق الموت الطائفية والتطهير العرقي وأصبح زوجي لا يواصلنا إلا عن طريق الهاتف بين الحين والأخر وهو في كل هذا يرتب ما يُمَكِنّهُ من السفر.

حتى تلك الساعات القليلة التي كنت أحياها مع زوجي ضن بها الأوغاد عليٌ صرت وحيدة، كزهرة في مهب إعصار أسود، انتظر الموت في كل ساعة، لكني قلب ينفطر رعباً كلما تخيلت الموت ينتزع مني زوجي.

أصبحت أخشى حتى صوت الرصاص الذي لم يعد عراقي يخشاه كل ما سمعت صوت رصاص عن قرب افزع خوفا متخيلة أنها قد تكون فيه وهو عائد إلينا فأهرب إلي الداخل وارفع صوت التلفاز عاليا حتى لا اسمع طرق الباب لو جاءوا يبلغوني أنه مات..

كنت كثيراً ما أغلق هاتفي حتى لا أتلقى خبر موته.. أرهن ساعات نهاري أدعو له وفي ليلي أبكي عليه كنت أردد لنفسي أنه لن يستجيب للرصاص، كنت أقول لن يموت...، وفي إحدى تلك الليالي المشئومة الظالِمة دهمتنا قوات عراقية لتفتيش البيت كجزء من خطة أمنية في المنطقة حينها، أيقنت أن الأسوأ قادم الآن، وتمنيت أن يكون الموت، فأنا امرأة شابة في بيتي بمفردي وهؤلاء كلاب لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، كدت انهار تذكرت رحمة الله وغيرته على عباده.

ظللت الهج بالذكر بيني وبين نفسي وأنا أتمنى الموت لا غير، فتشوا البيت لم تنج منهم حتى أغراض المطبخ حتى كيس الأرز فتشوه وبحركات استفزازية مستهترة، كاد الرعب لحظتها أن يشل أطرافي مع كل حركة أو خطوة أقول ها هي الآن اللحظة السوداء، يا الله أمتك تلوذ بك وهي بين الذئاب، ليس لي رب سواك، ألوذ بحماك..

كنت أفكر في أولادي هل سيشاهدون أمهم فريسة بين أنياب الذئاب، ماذا سيفعلون بهم ما مصيرهم.. كل الإجابات سوداء وكل الاحتمالات ظالمة.. الهج بالذكر والدعاء.. أقاوم دمعي حتى لا يراني الأوغاد ضعيفة فيطمعون فيَ.. ثم تنهمر رحمة الله فينصرفون وقد حطموا البيت لكنَ الله أنجاني
والله لولا حفظ الله لي لفعلوا بي ما يحلوا لهم، فقررت يومها أن أبيت الليل عند بيت أهلي فأخذت أولادي وذهبنا لهم، كانت الأيام هناك كلها متشابهة لا شيء سوى الانتظار وأكل ما يبقينا أحياء والنوم ساعات من النهار كي نستطيع البقاء مستيقظين في الليل تحسُباً لأي تفتيش أو مداهمة ليلية.

كنت أرتب لرؤية زوجي لكنه كان يرفض أن أسافر إليه ويصبِرّني ومرت الشهور دون أن أراه وأولادي لا يكفون السؤال عنه وفي يوم من تلك الأيام الموحشة جلسنا للغداء ولم نكن معتادين انتظار أخي الأصغر لحين عودته من الجامعة فقد اعتاد أن يأكل لوحده متأخرا عنا، الوقت تأخر وأخي لم يعد، أخذنا نرن على هاتفه وفي كل مرة نجده مغلق ونبرر لأنفسنا أن الطرق قد تكون مسدودة كما يحدث كثيرا بفعل حواجز كونكريتية التي تُوضَع دون مُقدِمات لتسد الشوارع وشبكة الاتصال متقطعة كعادتها وأبى وأمي يقفون عند باب الدار يرقبون رؤيته، ظللت أرن على هاتفه وأنا يدور في خُلدي تساؤل هل أخي تناول فطوره أم خرج بدون فطور؟

وفجأة استطعت أن أتصل ويُفتَح الخط فإذا بشخص أخر غير أخي يجيب فاستفسرت من المتكلم وقبل أن أسمع الجواب أعطيت الهاتف لأمي لتعرف أن أخي مُختَطف ويطالبون بفدية بمبلغ مالي كبير وكغيرنا دون ضمانات هيئنا المبلغ بعد سماع صوت أخي وما كان لدينا وقت لنتصل بأحد ممن نثق بهم كي يرافق والدي كما أننا خفنا أن يؤذوه لو فعلنا ذلك ،ذهب والدي بالمبلغ كما أرادوا، لكنه عاد خاوي اليدين وقال أنهم أعطوه موعدا آخر لاستلام أخي، وعادت ظلال الحزن تزرع أحشائنا من جديد، وعادت تتمزق الأكباد وانفتحت كل جراحات الزمن، ومن موعد لموعد مرت ثلاثة أسابيع تركت كل لحظة فيها ندبة في القلب ودمعة ساخنة على الخد، ذهب أبى ليستلم أخي من أحفاد ابن العلقمي وما استلم منهم إلا جثته بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من استلامهم الفدية.. سلخوا عضلة صدره عن أضلاعه لم يكن قتلا تقليديا، طريقة قتله كانت توحي بهدف لم تكن الفدية هدفهم وإلا ما كان هناك مبرر لسلخ صدره بهذا الشكل لم اعلم لهم هدف حتى هذه اللحظة هو انتقام لكن لماذا؟،
شُلت يدٍ مزقتك يا أخي، زلزل الله الأرض تحت أقدامهم، قطعّ الله أوصالهم، جالت هذه الدعوات في قلبي رغم علمي بأن زمن المعجزات قد انتهى مع أخر نبي من الأنبياء..

ها هو العراق قسى عليَّ للمرة الثانية ويقف ضدي ليكسر قلبي الضعيف مرتين في المصيبة نفسها
لماذا يعاند امرأة ضعيفة مثلي؟!!.. ها هو أقرب إخوتي إليّ يرحل عنا ليترك ذكرياتنا الجميلة التي لن يستطيع الزمن أن يمحوها من مخيلتي..

كان ذاك اليوم الحزين هو الضربة القاضية لوالدي فلم يطل به البقاء فهاجر بعد أسبوع ليترك الهم والحزن لي، لم يحتمل أن يفرغ بيته فجأة بعد إن كان أبناؤه يملئونه بمرحهم وضحكهم وأحلامهم أصبح البيت موحشاً فهاجر بغداد ليعيش وأمي في بلد مجاور وحيدين ورحلت أختاي مع أزواجهم وأولادهم لبلد آخر وبقيت أنا وأولادي في بغداد ننتظر غائبنا كي يعود.

الآن أذوق مرارة الوحدة كما لم أعرفها من قبل، الآن أتجرع كأس الوحشة كما لم أتجرعه من قبل، كنت افتقد زوجي وقرة عيني لكني كنت التمس العزاء في أخي أحاول التظلل بحماه، كنت ارتمي في حضن أبي وابكي أمرغ وجهي في صدره الرحب، أحاكي أمي أسرق ابتسامة من شفاه أختي، لكنهم جميعا رحلوا.. وخلفت وحدي انتظر غائبي الحبيب.. بمفردي تماما في وجهة العاصفة العاتية والحقد الأزرق المجنون.

ما عادت بغداد هي بغداد، تنكرت لي حتى أرضها وسمائها.

أذوب شوقا إلى زوجي ينتشلني من هذا المحيط المظلم، هو وحده الآن عنوان الحياة، رحمة الله ساقت إليَ خالة كانت تعيش مع والدتي في بيت أهلي سنوات طويلة جدا منذ صغر سني أتت لتعيش معنا وآثرت البقاء برفقتي أنا وأولادي وفاءاً منها فعملت على راحتنا دون كلل ولا ملل.هكذا كانت تمر الأيام ننتظر غائبنا الذي فاجأنا بيوم من تلك الأيام ليقر أعيننا برؤيته مرة أخرى بعد غياب طال..

كانت لحظات رؤيته لا توصف اختلج الفرح قلبي فضحك، أثلجت رؤيته صدري، انهمر الدمع من عيني ارتميت في أحضانه ورحت أبكي وأغسل بدمعي كل أحزاني ومخاوفي وهمومي، بقى معنا أيام كانت كلمح البصر ما تركت شيئا ينغص علينا ساعاتنا رغم ما كانت تحدثني به نفسي وكأني أعلم أن بعد هذه البشرى فراق آخر فوجدته يفجعني بأن اسمه في لائحة المطلوبين لجهة معينة من ضمن الأسماء المدونة للمطلوبين لتيار من التيارات التي كانت ولا تزال على الساحة، ولكن لماذا؟ ومن سيجيب على هذا التساؤل؟ ممن أستوضح الأمر؟

تعقدت الأمور واستصعب أمر أن نغادر البلد ونجتاز الحدود. أحيانا أجيب نفسي وأقول قد يكون للموضوع صلة بشكل أو بآخر لأن زوجي كان بالإضافة لكونه طبيب كان عضو في اللجنة الأولمبية للرياضة لفترة أيام النظام السابق؟ وإن يكُن.. هل هذا سبب لتصفيته؟ تساؤلات لا أحد يمكن أن أستفسر منه عليها.

أصبحنا ننتظر مجهول وهاهي أمواج الحياة تقذفني إلى حيث لا أدري إلى دوامة الحيرة تمنيت لو أنني أنتمي لبلد آخر وددت لو أتخذ لي بلد آخر وأسميه وطني كرهت بلادي فقد خانت أمانتي.

خانت بغداد أمانتي ولم تحفظ لي أخ ولا حبيب، خانتني وما خُنتها يوما. أين أهلي وأين حبيبي وأين إخوتي؟ أين الضحكة؟ أين عملي وأين أصحابي وأين أمسياتهم؟ أين حدائق بغداد أين أنهارها؟، ما فيها سوى الموت المهين الرخيص، ويهزني ألمي فاصرخ، أين أمتي؟!! أين مليار المسلمين من كل هذا؟ أين خير أمة أخرجت للناس؟ أين أمة مُحمّد صلى الله عليه وسلم مما يحدث لنا ألا يروون ما يفعله المغول وأحفاد ابن العلقمي؟ ألا يرون إخوة لهم يُقتّلون ويُذبّحون ؟ ألا يخشون يوماً تكون الدائرة عليهم؟ حسبنا الله ونعم الوكيل.

ألا يبكي مسلم واحد لبكائي ألا تتألم مسلمة واحدة لألمي....

أصبحت وحيدة ولكن الآن بلا أمل ولا أعيش إلا ببقايا من اليقين برحمة الله في صدري، لا أجد السلوى سوى مع بعض الذكريات التي تهمني كثيراً كثيراً، وصور هي كل ما بقي لي من أحبتي، أحِن إلى كل شيء جمعني بهم أحِن إلى الأكل معهم أحِن إلى الضحك معهم والسهر برفقتهم أحِن لكل شيء جمعني بهم، عزائي في غيابهم كان ولا زال صورهم.. ماذا أنسى كي أنسى؟ ذكريات لا يمحوها الزمان فلأجلهم عشقت الحياة.. والآن بعد فراقهم أصبح ملاذي الوحيد هو وسادتي كي أبكي تحتها بعيدا عن عيون أولادي.

أسمع صوته بين الحين والأخر بالهاتف وفي كل مرة يحاول إقناعي أن أسافر أنا وأولادنا خارج البلد حتى اقتنعت خوفا على أولادي في هذه الظروف التي صَعُبَت يوما بعد يوم كان يجب أن أراه قبل السفر لكن خشيت عليه بقيت انتظر أن يتمكن من الانتقال إلى مكان أكثر أمنا بالنسبة له مكان يسعني السفر إليه كي أراه ولكن الخوف والحذر منعونا ومرت شهور بعدها لم يتصل فيها ولا مرة، أحسست أني فقدت حياتي، لم استطع الصبر كنت أبيت ودمعي يحرق وسادتي، اشتاق إلى كفه الحنون يربط على كتفي يزرع الصبر في قلبي، يمسح دموعي الحارة، أفتقده وأحن إليه فأختبئ عن عيوني أولادي وأبكي...

وعزمت على السفر بعد أن يئست أن أراه وبعد أن اطمأننت عليه باتصال من صديقه، قال لي هو بخير لكنه في منطقة لا توجد فيها تغطية للهاتف المحمول، كلفته أن يبلغه أننا سنسافر إلى مصر وهو يعرف عنواننا هناك فقد كنا نمتلك بيت في مصر سبق وأن اشتريناه عن طريق بعض الأصدقاء تحسبا لأي سفر طارئ بعد اضطراب الوضع في البلد. كان اختيارنا مصر بتشجيع من بعض الأصدقاء لكن فوجئنا أنه قد صدر قرار جمهوري يمنع دخول أي عراقي إلى الأراضي المصرية، يالله أهذا ما أنتظره من أمتي، أهذه مواساة المسلمين لي، مصر التي عاش بيننا أبنائها حتى كانوا أكثر حظا منا فيها.

انتظرت أرتب دخولي بمساعدة بعض الإخوة وما هي إلا أيام في هذه الأثناء حتى وجدت والدتي أمامنا في بغداد، فتحت الباب لأراها تلبس السواد فقلت لها لا تقولي أبي مات فأخذتني بحضنها لأسمعها تقول إن زوجي هو من مات!

لم أعي ما تقول، بل لم أستطيع أن أعي... أخرج من عالمي.. أفقد وعي.. أغرق في الفراغ.. أغرق حتى قمتي في التيه.. تضيع كل المعالم في رأسي.. لا أدرى أفي حضن أمي أنا مرتمية أم في مطحنة بشرية تطحن كل ذرة في كياني... أحاول أن أمسك بروحي المنفلتة عنى.. هل قالت أمي أنه رحل؟ لقد كان هو الملجأ والملاذ في دنيتي القاسية فهل رحل.. هل تركها وحدها تخوض لجة العذاب؟ كيف رحل وهو يعلم أني لا أستطيع الحياة بدونه؟ هو يعلم أني لا أقوى على المسير بغيره فكيف رحل!!..

لا أشعر بنفسي وأنهار.. انهار كمن وقعت عليه السماء ولفظته الأرض..

أقدار غريبة أنا انتظره كي يأتي من هو خارج البلد ليخبرني بموته؟،كيف يحدث هذا؟

عرِف صديقه بوفاته وما رغب أن يبلغني فاتصل بأهلي وأخبرهم بموته وأنه قد تعرف على صورته في معهد الطب العدلي، وأنه دُفِن في مقبرة جماعية كعادتهم في حال لم يتوجه قريب للمتوفى من الدرجة الأولى ليستلمه خلال فترة محدودة، وأتت أمي تنقل لي الخبر.. كُنا جميعنا مستهدفين ولم نكن نعلم ولا نعلم لهذا مبرر حتى هذه اللحظة.

لقد مات وماتت روحي معه.. مات وماتت معه كل آمالي مات بعد كل هذا الانتظار والصبر مات قبل أن نفي وعودنا لأولادنا، مات بعد كل ما كان بيننا، مات بعد أن وعدني أن لا يطول غيابه، مات وماتت ضحكاته، مات شريك حياتي ورفيق روحي، مات دون أن أودعه، مات قبل أن يعلمني أعيش بدونه، مات ولم يترك لي قبر له كي أزوره، مات قمر سمائي وماتت معه بغداد في عيني..

دنيا العجب أخذت مني حروف حياتي، سحقت مسراتي دون رفق، أخذت مني أعز ناسي، أخذت عزوتي وكسرت ظهري، ما رحمتني وأنا الضعيفة، سلبتني كل ما لي دون شفقة وأنا الضعيفة....

كرهت كل من على الأرض وكرهت بغداد فقررت هجرها وما هي إلا يومين حتى تركتها وذهبت وأولادي لنعيش في بلد مجاور بالقرب من إخواني..

حرصت على دموع أولادي فلم أتمنى الموت عشت لأجلهم لم أرغب بالموت من أجلهم، عشنا هناك كما يعيش باقي الملايين من العراقيين الذين لاذوا بالفرار خارج بلادهم عايدين شباك اسمه شباك الإقامة، معظمهم يجد نفسه يعيش بشكل غير قانوني والناس تكابد وتعاني للحصول على سكن، تعاني لتحصل على الرعاية الصحية تعاني لتُعَّلِم أبناءها.

رأيت معاملة العرب للعراقي كيف كانت، ألم تنعم يا عربي في بغداد وتأخذ حقوقك كما لو كنت كواحد منا؟ نسي العرب أنه كانت لهم مقاعد دراسية مخصصة للشباب العربي دون منافس من العراقي في جامعاتنا؟ نسيتم عيشكم في العراق؟ نسيتم وتناسيتم لكننا لم ننس والأيام دُوَل، لماذا هذه المعاملة الحقيرة؟ وكأن العراقي آتاهم في فسحة ونزهة وليس هارباً من الموت، تركنا ذلك البلد لبلد أخر وما طال بيّ العيش حتى عدت إلى بلدي مرة أخري كي أُؤمن.

ما تركت خلفي مما نملُك وهكذا تلطمني الأمواج من مكان لآخر ولا ساحل أمان أرسو عليه. وسط كل هذا كان من الأصدقاء من يسأل عني ويتفقدني ويصبرني ويأخذ بيدي، وما هي إلا شهور بعد عودتي حتى أتت والدتي مرة أخري بعد أن توفى والدي الذي ثقل عليه المرض وها نحن من بلد لآخر ومن قهرٍ لقهر ولا تلوح لي نهاية لرحلة النهاية.








المصدر: خاص بإذاعة طريق الإسلام