معركة وادي موهاكس (سقوط حامية الصليب)

منذ أن بزغ نجم الدولة العثمانية على الساحة الأوروبية خاصة في منطقة البلقان، تزعمت مملكة المجر -والتي كانت تعتبر وقتها أقوى الممالك النصرانية- قيادة التحالف الأوروبي الصليبي، ودخلت في عدة معارك طاحنة ضد الدولة العثمانية، ومن أشهر المعارك معركة وادي موهاكس.

  • التصنيفات: التاريخ الإسلامي -

المجر وعداوة لا تنتهي:

منذ أن بزغ نجم الدولة العثمانية على الساحة الأوروبية خاصة في منطقة البلقان، تزعمت مملكة المجر -والتي كانت تعتبر وقتها أقوى الممالك النصرانية- قيادة التحالف الأوروبي الصليبي، ودخلت في عدة معارك طاحنة ضد الدولة العثمانية، بل إن ملوك المجر أنفسهم كانوا يشتركون في القتال بأنفسهم، ومن أشهر المعارك التي خاضتها المجر ضد المسلمين العثمانيين معركة نيكوبلس سنة 798هـ في عهد السلطان بايزيد الصاعقة، حيث قاد سيجموند ملك المجر تحالفًا صليبيًا مكونًا من ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإسكتلندا ولوكسمبرج، وانتصر المسلمون، ومعركة فارنا سنة 848هـ في عهد السلطان مراد الثاني، حيث قَادَ لاديسلاسي ملك المجر تحالفًا صليبيًا جديدًا يفوق سابقه، وانتصر المسلمون وقَتَل مرادُ الثاني لاديسلاسي بيده في مبارزة رهيبة بين الرجلين، وهكذا ظلّت مملكة المجر طوال قيامها مملكة للشر والتآمر ضد الدولة العثمانية ورأس حربة في الصراع بين الإسلام والنصرانية في القارة الأوروبية عمومًا ومنطقة البلقان خصوصًا.

الأوضاع داخل الدولة العثمانية:

في تلك الفترة من فترات وأطوار الدولة العثمانية بلغت فيها القوة والاتساع العثماني مداه الكبير، وذلك بعد قيام السلطان سليم الأول بتوحيد العالم الإسلامي بعد أن ضم الشام ومصر لأملاك الدولة العثمانية، وأزال الدولة المملوكية ودانت له البلاد الحجازية واليمن بالطاعة، وأخذ العراق من الدولة الصفوية الخبيثة، وثبّت سليم أركان دولته بقوة وعظمة، وورث ذلك كله ابنه سليمان الملقب بالقانوني، وكان شابًا في السادسة والعشرين من عمره، ويعتبر عصر سليمان هو العصر الذهبي للدولة العثمانية، حيث بلغت فيه أوج قوتها واتساعها، وأصبحت ولايات الدول العثمانية منتشرة في قارات العالم الثلاثة -آسيا، إفريقيا، أوروبا- وهي المعروفة وقتها.

استطاع سليمان القانوني أن يقضي على كل الفتن والثورات الداخلية التي نشأت بعد وفاة أبيه سليم، مثل ثورة جان برولي الغزالي والي الشام، وثورة أحمد شاه والي مصر، وثورات الشيعة المتكررة على يد رجال مثل بابا ذو النون، وقلندر جلبي في منطقتي قونية ومرعش، واشتهر سليمان بالتأني في جميع شؤونه ولا يتعجل في الأعمال التي يريد تنفيذها، بل كان يفكر بعمق ثم يقرر وينفذ ما قرّره، وكان لسليمان القانوني الدور الكبير في إخضاع بلاد ليبيا وتونس والجزائر وأجزاء من المغرب للحكم العثماني بعد أن أزال منها الدول الضعيفة الخاضعة للصليبين، وخضد شوكة إسبانيا والبرتغال بعدما كانتا على وشك النيل من بلاد الإسلام كلها بشمال إفريقيا.

الأوضاع داخل أوروبا:

في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تعيش عصرها الذهبي ولا تغيب الشمس عن أقاليمها، كانت الأوضاع على الصعيد الأوروبي شديدة الاضطراب، وبالغة التردي، وذلك على كافة الأصعدة، جعلت أوروبا منشغلة بنفسها عن غيرها، وكانت هناك حالة من فوضى شديدة على الصعيدين السياسي والديني.

فلقد كان هناك صراع سياسي كبير بين فرانسوا ملك فرنسا والإمبراطور شارلكان الجالس على عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة، مع العلم أن أملاك هذه الإمبراطورية من إسبانيا والبرتغال وهولندا وألمانيا وإمارات جنوة وفلورنسا وجزر صقلية وقبرص ورودس ومالطة وكل الأراضي المنخفضة من قارة أوروبا، وهذا يعني أن أملاك شارلكان تحيط بفرانسوا من كل مكان، وللعلم أيضًا كان شارلكان أشد الناس عداوة للإسلام والمسلمين عامة والعثمانيين خاصة، بل إن عداوة شارلكان فاقت سابقيه ولاحقيه.

أما على الصعيد الديني كان هناك صراع شديد وتكفير متبادل بين أتباع المذهب الكاثوليكي بقيادة البابا ليو العاشر وأتباع المذهب البروتستانتي بقيادة الراهب الألماني اليهودي الأصل مارتن لوثر.

تلك سنة ربانية قاضية ماضية إلى قيام الساعة وحتى ينزل عيسى عليه السلام، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويصلي مع المسلمين، ولا تقبل بعدها جزية، تلك السنة الربانية نجدها في قوله تعالى: {وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14]، فهم دائمًا في عداوة وشحناء وتكفير، الكاثوليك يكفرون البروتوستانت والأرثوذوكس والعكس، ومهما حاولوا الظهور بمظهر المتحد فهم متفرقون ومختلفون، والذي يجمعهم دائمًا ويوحد رايتهم هو عداوتهم الكبيرة للإسلام والمسلمين، بل إن هذه العداوة للإسلام تجمع كل الكافرين والمجرمين من أهل الأرض، سواء من أهل الكتاب أم غيرهم من عباد الأبقار والأوثان والشياطين.

سياسة التقارب:

قلنا من قبل: إن أملاك شارلكان كانت تحيط بفرنسا من كل مكان، وفرانسوا ملك فرنسا لا يستطيع مواجهة شارلكان لا سياسيًا ولا حربيًا ولا أيضًا اقتصاديًا، وهو يرى أن طموحات شارلكان نحو فرنسا كبيرة، ففكر فرنسوا في الدخول في حلف مع الدولة العثمانية ليتقوى بها ضد أطماع شارلكان، وقد بدأت فكرة الدخول في حلف مع العثمانيين بعد معركة بافيا، والتي أُسر فيها ملك فرنسا فرانسوا الأول من جانب جيوش النمسا، هي معروفة تاريخيًا باسم: مملكة أو عائلة الهابسبرج، وذلك سنة 930هـ، فأسرعت والدة فرانسوا الأول والوصية على العرش، وأوفدت مبعوثًا خاصًا من عندها اسمه جون فرانجيباني ومعه خطاب منها وخطاب من الملك الأسير، يطلبان فيهما من السلطان سليمان القانوني مهاجمة قوات الهابسبرج لفك أسر فرانسوا.

وعلى الرغم من أن فرانسوا قد أطلق سراحه بموجب معاهدة تم عقدها في مدريد بين فرنسا والنمسا سنة 139هـ، إلا أن فرانسوا صمم أن يمضي قدمًا في سياسته التقاربية مع الدولة العثمانية، فأرسل سكرتيره جان دي لافوريه إلى السلطان سليمان لوضع الخطوط الرئيسة للمعاهدة التي عرفت بمعاهدة الامتيازات العثمانية الفرنسية.

كانت نتائج سياسة التقارب تلك وما تمخضت عنه من معاهدات أن زاد التعاون بين الأسطولين العثماني والفرنسي، وشن الأسطول العثماني هجمات قوية على شواطئ مملكة نابولي التي كانت تابعة لشارلكان، ثم تجمعت وحدات الأسطول العثماني والفرنسي وهاجمت نسير التابعة لولاية سافوي حليف شارلكان، واستفادت فرنسا من هذا التقارب مع الدولة العثمانية عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، وارتفع قدرها وسط الدولة الأوروبية جدًا بفضل حماية العثمانيين لقوافل فرنسا التجارية.

معركة وادي موهاكس:

كما قلنا من قبل: إن فرانسوا الأول أثناء وقوعه في أسر قوات الهابسبرج أرسل برسالة يستعطف فيها السلطان سليمان القانوني، ويطلب منه الهجوم على قوات الهابسبرج لتخفيف الضغط عليه من جانب شارلكان، ووجد سليمان القانوني أن في ذلك فرصة سانحة لاستغلال هذا الصراع الأوروبي من عدة جوانب؛ منها:

1. تخفيف الضغط على مسلمي الأندلس، حيث كان شارلكان أعدى أعداء الإسلام، وقد أوقد نار محاكم التفتيش في الأندلس، وارتكب في حق مسلمي الأندلس ما يعجز الوصف عن تصويره.

2. فتح أراضٍ جديدة في منطقة البلقان، ونشر دين الإسلام في أوروبا.

3. شق الصف الصليبي الأوروبي الذي تحالف عدة مرات على المسلمين والدولة العثمانية.

4. تثبيت وضع المسلمين الأوروبيين حديثي العهد بالإسلام في بلغاريا والبوسنة وألبانيا.

5. تأديب مملكة المجر الغادرة، والتي هي أصلًا محور كلامنا وطرف الصراع في تلك المعركة، فقد أفل نجم هذه المملكة العريقة في حرب الإسلام بعد الهزائم المتتالية التي نالتها على يد العثمانيين، وأُجبرت في النهاية على دفع الجزية للدولة العثمانية كنوع من أنواع الخضوع والتبعية للسلطان الإسلامي، واستمر الوضع هكذا فترة من الزمن حتى تولى مُلكَ المجر رجلٌ شديد الحقد، عظيم الكفر، اسمه فيلاديسلاف الثاني، حيث اعتزم فك أية تعهدات كانت قد أُعطيت من قِبَلِ أسلافه لسلاطين الدولة العثمانية، ولما جاءه سفير السلطان سليمان لقبض الجزية المعتادة أعلن رفضه لدفعها، وقام بعمل شنيع في عُرْف العلاقات الدولية، حيث قام بقتل السفير العثماني؛ ما يُعَد إعلانًا للحرب، ودخل فيلاديسلاف في حلف مع شارلكان ليأمن بطش السلطان سليمان مما جرى منه -قتل للسفير ومنع للجزية-.

الخطة المحكمة:

قرر سليمان أن يقود الجيوش بنفسه ليدعم الحالة المعنوية للجند، وإظهارًا لعزمه الأكيد على تأديب مملكة المجر وإنهائها تمامًا من الوجود العسكري، جزاءً وفاقًا لتلك المملكة المجرمة التي طالما حاربت الإسلام وألّبت عليه وجمعت الصليبين بأوروبا لحرب الإسلام، وقادت التحالف الصليبي عدة مرات، خرج سليمان يقود مائة ألف مقاتل وثمانمائة سفينة وثلاثمائة مدفع، وجعل مدينة بلجراد نقطة الانطلاق للجيوش العثمانية، وقام بعبور نهر الدانوب الفاصل بين مملكة الصرب ومملكة المجر، ودخل وادي موهاكس بالأراضي المجرية في 20 ذي القعدة سنة 932هـ.

استعد ملك المجر الغادر فيلاديسلاف الثاني هو وجنوده للدفاع عن بلادهم، واصطدم الجيشان في 21 ذي القعدة سنة 932هـ، وهجم المجريون بكل قوتهم مدفوعين بالحقد القديم والهزائم التاريخية وعداوة الدين والدفاع عن أرضهم، وتقهقر الجيش العثماني وَفْق خطة موضوعة سلفًا لاستدراج المجريين، وظل العثمانيون يتقهقرون حتى وصلوا إلى النقطة المتفق عليها سلفًا، وهي نقطة مدى نيران المدافع العثمانية التي كانت تأخذ مواقعها خلف الصفوف، وبدأت هذه المدافع تضرب نيرانها دفعة واحدة وفي آن واحد، ثلاثمائة مدفع يصبّون حمم نيرانهم على الجيش المجري الذي دُمّر تدميرًا كاملًا، ومات معظم الجيش تحت نيران المدافع، وعلى رأسهم ملكهم الهالك فلاديسلاف الثاني.

وبعد هذا الانتصار الهائل لم يبقَ للمجر مَن يدافع عنها، وواصل سليمان سيره حتى دخل مدينة بودابست عاصمة المجر في 3 ذي الحجة سنة 932هـ، وأصبحت المجر ولاية عثمانية، وعين سليمان عليها واليًا من طرفه، وانقضت بذلك مملكة الشر وحامية الصليب الأوروبي لقرابة عقدين من الزمن، ودفعت ثمن عداوتها للإسلام قديمًا وحديثًا؛ لأنها سنة ماضية ونهاية حتمية، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ. وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173].

--------------------------------------------------------------------------
المراجع والمصادر:

1. تاريخ الدولة العلية.
2. شذرات الذهب.
3. الدولة العثمانية المفترى عليها.
4. عوامل نهوض وسقوط الدولة العثمانية.
5. أطلس التاريخ الإسلامي.
6. أطلس تاريخ الإسلام.
7. التاريخ الإسلامي.
8. الدولة العثمانية في العصر الحديث.
 

شريف عبدالعزيز.

المصدر: موقع ملتقى الخطباء.