الباحثة عن الخشوع

أمة الله طالبة في العام الأخير من المرحلة الثانوية تروي قصتها مع الصّلاة والخشوع قائلةً: كان لأسرتي والبيئة المحلية والمدرسة أثر كبير في التزامي بالدين وإقبالي على الصّلاة بهمّة عالية، فقد نشأت في أسرة الوالدين فيها يُصليان ويطلبان منّا جميعًا أن نُصلّي، ويزهوان بمن يلتزم بأداء الصّلاة حالهم كحال أهل القرية التي هي مسقط رأسي..

  • التصنيفات: فقه الصلاة -

فُرِضَت الصّلاة في السّماء وما ذلك إلا لأهميتها؛ فهي معراج المؤمن بروحه وقلبه إلى السّماء، وهي صلة بين العبد وربه وأول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة، فلا بد من إتقانها والاهتمام بها..

أمة الله طالبة في العام الأخير من المرحلة الثانوية تروي قصتها مع الصّلاة والخشوع قائلةً: كان لأسرتي والبيئة المحلية والمدرسة أثر كبير في التزامي بالدين وإقبالي على الصّلاة بهمّة عالية، فقد نشأت في أسرة الوالدين فيها يُصليان ويطلبان منّا جميعًا أن نُصلّي، ويزهوان بمن يلتزم بأداء الصّلاة حالهم كحال أهل القرية التي هي مسقط رأسي، وكان شقيقي الأصغر لا تفوته صلاة في المسجد على صغر سنّه..

وتقول: التزمت بالصلاة في الثانية عشرة من عمري وكنت ألبس لباسًا ساترًا، وفي السادسة عشرة من عمري أخبرت والديّ عن رغبتي بارتداء جلباب ففرحا كثيرًا واشترى لي والدي جلبابين، وواظبت على حضور دروس الوعظ في المسجد المجاور برفقة والدتي وقريباتي، أمّا في المدرسة فكان لمعلماتي أكبر الأثر في تقوية الوازع الديني لديّ وللكثير من الطالبات; فمعلّمة التربية الإسلامية كانت مبدعة في أساليب التدريس وحباها الله عزّ وجل علمًا غزيرًا وشخصية قوية، ومعلمة الرياضيات كانت قُدوة بسلوكها الطيب، ومعلّمة اللغة العربية كانت تُصلّي بنا جماعة في بعض الأحيان وتحدثنا عن كثير من أمور الدين.

وتخبرنا أمة عن اهتمامها بالقرآن فتقول: ألزمت نفسي بورد بسيط أقرؤه كل يوم إلى أن تعوّدت فأصبحت أقرأ صفحات أكثر، وأحاول تحسين صوتي بالقراءة وأوليت الصّلاة اهتمامًا شديدًا، فكنت أتأنّى بصلاتي حتى عُرفت بذلك، وعن اهتمامها بالمطالعة فتقول: أحببتُ المطالعة في سِنّ مبكّرة وكنت أميل لقراءة الكتب الدينية، اشتريت في إحدى الإجازات الصّيفية كتاب رياض الصالحين وبعض الكتب الدينية، في بداية الصّف الثالث الثانوي استفتحت معلمة التربية الإسلامية العام الدراسيّ بالحديث عن الصّلاة وقامت بتفسير قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2]، وبينت أنّ المقصود بالخشوع لين القلب ورقته وخضوعه، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح الأعضاء، لأنها تابعة له ومحله القلب والمعبر عنه الجوارح وهو توفيق من الله جل وعلا يوفق إليه الصادقين في عبادته..

قامت المعلمة بإهداء كل طالبة مطوية عن أسباب الخشوع، ففرحت بها وقرأتها واستوعبتُ ما فيها ففتحت لي أبوابًا كثيرة من المعرفة وبدأتُ أستشعرُ أسرار الصّلاة وأتدبرُ معاني الآيات، فحدث تغير شديد في صلاتي وكأنّ الحياة دبّت فيها، وجدت أنّ الخشوع في الصّلاة يحتاج إلى تدريب وعلم ولو يسير، حيث يبدأ الإقبال على الصّلاة من دخول الوقت أو الآذان فهو: تنبيه أولي للسّمع فيستجيب اللسان بالترديد مع المؤذِّن ثم الدعاء بعده، لننال شفاعة المصطفى صلّى الله عليه وسلم حيث قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة» (رواه البخاري في صحيحه).

التنبيه الثاني للأعضاء، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» (أخرجه أهل السنن)، وذلك بإسباع الوضوء الذي أوصانا به حبيبنا محمد، ويعني أن يعمّ الماء جميع العضو بأن يجري عليه الماء، وذلك يستدعي التأكّد من وصول الماء جيدًا إلى العضو المراد غسله بالدلك، ثُمّ الدعاء عند الانتهاء من الوضوء بقولنا: "أشْهَدُ أنْ لا إله إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيك لَهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَوَّابِينَ، واجْعَلْني مِنَ المُتَطَهِّرِينَ" وفيه رجاء تطهير القلب من الأدران كما يتطهّر الجسد بالماء..

بالإضافة إلى أنّ الوضوء يبعث في النفس الهِمَّة والنشاط ممّا يُعين على أداء الصّلاة بوعيّ تام -الطهارة شرط لصحة الصّلاة-، التهيؤ للصلاة تنبيه ثالث لجسدي وعقلي وجميع حواسّي بارتداء ثياب طاهرة نظيفة; فطهارة الثوب من شروط صحة الصّلاة -للنساء ثياب جميلة خاصّة بالصّلاة تستر الجسم ما عدا الوجه والكفين، الكثيرات يحرصن على تطييبها وتخصيصها للصلاة فقط-، والروائح الكريهة للثوب أو الفم لا تليق بمن هو مُقبل على الوقوف بين يديّ خالقه ومناجاته.

وتقول أمة الله: كانت جدتي تُدهشني بإحساسها بموعد الصّلاة فتتوضأ وتستعد قبل الأذان، وكانت والدتي تتوقف عن طهو طعام الغداء عندما يحين وقت صلاة الظهر وتُقبل على الصّلاة، وتحرص على أن يكون إخوتي الصّغار بأمان -الرُّضع أو الذين هم في مرحلة الحركة والنشاط- فلا يُشغَل تفكيرها بشيء -الخشية من احتراق الطعام أو تعرض الطفل للخطر- ممّا يضطرها للإسراع في الصّلاة، فوجدت أنّ من الأمور المعينة على الخشوع الابتعاد عمّا يُشغل التفكير كما كانت تفعل والدتي جزاها الله خيرًا، يُقاس على هذا الممتلكات; فليس غريبًا أن يضع أصحاب المحال التجارية ما يُشير إلى أنّ المحل مغلق بسبب الصّلاة، وأن يحترم الآخرون هذا الشعار فلا يتعدّوا على ملكية أحد، وما ذلك إلا لأنّ الصّلاة عبادة تحتاج إلى صفاء الذهن عند الإقبال عليها..

بمجرد الوقوف للصّلاة باتجاه القبلة -شرط لصحة الصّلاة- هذا يعني الالتزام والانضباط، بتُّ أستشعر هول الوقوف بين يدي الله عزّ وجل يوم الحساب، وبما أنّ الأجل غير معلوم فربما تكون آخر العهد لي بهذه الدنيا هذه الصّلاة، فأُقبل عليها بقلبي وجوارحي راجيةً أن يُكَفِّر الله بها سيئاتي ويرفع درجاتي فتكون كصلاة مودّع.

تقول أمة الله بأنّها كانت تسمع جدتها ووالدتها تقولان قبل التكبير: "نويت أن أُصلّي لله تعالى"، وتحددان اسم الصلاة مثلًا وعدد الركعات وقد سمعتُ من معلّمة التربية الإسلامية بأنّ النية عمل قلبي وأخبرتُ والدتي وجدتي بذلك فكان تركه -التلفظ- بالنسبة لهما مجاهدة حقيقية، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} [الزمر:11]، فالإخلاص من عمل القلب وهو الذي يراد به وجه الله تعالى لا غيره..

أدخل الصّلاة ملتزمة بما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «..وتحريمها التكبير..».
أرفع يديّ قائلةً: "الله أكبر" إجلالًا وتعظيمًا فيحرم أي عمل يُخلّ بها فهي جركات مخصوصة وكلام مخصوص، بعدها أضع يدي اليمنى فوق اليسرى على صدري وأستفتح صلاتي بدعاء الاستفتاح: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا مسلمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:161-163]، وهو دعاء مسنون فيكون كالتهيئة لما يليه، ثم أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم طلبًا للحماية من الله عز وجل أن يبعد شر الوسواس الخنّاس عن قلبي لئلا يُفسد عليَّ عملي ثُمّ أبدأ بفاتحة الكتاب -ركن من أركانِ الصلاة-، مع استحضار معانيها الواردة في حديث نبوي بعد أن كانت قراءتي لها عادية كقراءة الطفل الصّغير; ألفاظ بدون معرفة المقصود.

فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الذي يرويه عن ربِّهِ أنَّ اللهَ عز وجل يقول: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ -يعني الفاتحةَ- فَإِذَا قَالَ الْعَبْد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَقَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» (مسند أحمد:231/14)، أُسمِعُ نفسي بما أقرأ وأتمهل لعلمي بأنّ خالقي يرد عليّ ويقول حمدني عبدي ومجدني عبدي وأثنى عليّ عبدي ولعبدي ما سأل، وجُل ما أرجوه أن يجعلني ربي من المؤمنين الصّالحين الذين أنعم عليهم بالهداية وأن يجنبني طريق المغضوب عليهم أو الضالّين من اليهود والنصارى.

وتقول: إحدى صديقاتي زارتني يومًا وصلّت في بيتي وكانت سريعةً جدًا، فاستأذنتُها بأن تقرأ الفاتحة أمامي بصوت مرتفع كما تقرأها في الصّلاة فتبين لها أنّ الكلام يتداخل مع بعضه البعض ولا يكاد يُفهم بسبب سرعتها! فنصحتها بأن تُجَرّب قراءة الفاتحة خارج الصّلاة بصوت مرتفع بحيث تُسمع نفسها أو تسجيل صوتها لسماعه، أو مُتابعة أحد المتقنين لها، تقول أمة الله: لم أكن مسيئة في صلاتي بل كنت أُؤديها باطمئنان -الطمأنينة تعني استقرار الأعضاء قبل الانتقال لركن آخر-؛ لحرص معلمتي على تعليمنا الهيئة الصحيحة للركوع أثناء صلاتها بنا جماعة، حيث بينت لنا ضرورة استواء الظهر بحيث لو وضع إناء به ماء لا ينسكب، فالانحناءة البسيطة ليست ركوعًا، والاعتدال في القيام ضروري.

أمّا السجود فبيّنت لنا أنّه يجب أن يكون على الأعضاء السبعة لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم؛ على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه والكفين والركبتين وأطراف القدمين» (صحيح البخاري:812)، لكنني كنت أغفل عن الدعاء في السّجود وأكتفي بالتسبيحات فأصبحت أتشوق إليه وأُطيل السجود لعلمي بأن العبد أقرب ما يكون من الله عزّ وجل وهو ساجد، فأدعو لنفسي ولوالديّ ولجميع أفراد أُسرتي وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، متيقنًا بأنّ الملائكة ترد علي: "ولك مثل".

قراءة المطوية شجعتني على البحث والمطالعة فبحثت عن معاني التشهّد والصّلاة الإبراهيمية، فوجدت أنّ التشهّد فيه تعظيم وثناء على الخالق عزّ وجل وأنّ العبودية لله عز وجل ثم التسليم على عباد الله الصالحين بعد البدء بالنبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، لفضله على هذه الأمة وأتشهّد معلنًا استمرارية براءتي من الشرك وأشير بالسبابة وأنظر إليها لأنّه أدعى للوحدانية وأتم للخشوع، أمّا الصلاة الإبراهيمية ففيها الصّلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولًا وعلى آله.

وكم فرحت بعدما علمت أنّ آل محمّد صلّى الله عليه وسلّم هم أهل بيته وأتباعه فيشمل الدعاء المؤمنين، وأرجو أن أكون منهم، وحريٌّ بكل مؤمن أن يشعر بالفرحة، وبعد ذلك الصّلاة على أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام ونبينا محمّد عليه الصّلاة وأزكى السّلام من نسله فيشمله الدعاء وما ذلك إلا لفضله عليه الصّلاة والسّلام.

أصبحت أتريّث قليلًا بعد التسليم على الملائكة عن يميني وعن يساري -وتحليلها التسليم-، وأجلس للدعاء، وأحب دعاء إلى قلبي هو ما رواه معاذ بن جبل حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ إني والله لأحبك فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم).

تختم قولها بأنّها كانت تُصلّي صلاة عادية فأصبحت تُصلّي بخشوع وأكثر ما وجدته في: تدبر القراءة خاصّة الفاتحة وفهم المعاني والتنوّيع فيما بعدها، الطمأنينة في أداء الأركان والاجتهاد في الدعاء بالسّجود.

وتقول: بفضل الله عزّ وجل صليت مرارًا وتكرارًا بنسبة عالية من الخشوع واستحضار القلب، ولدفع وساوس الشيطان عن نفسي عملت بنصيحة الكاتب وهي الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ثلاثًا، وأتفل عن يساري قبل الشروع في الصّلاة، ما قرأته كان صغيرًا في الحجم كبيرًا في الأثر فقد أصبحت صلاتي فيها حياة.


أميرة محمود عبد الله

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام