والكلمة أمانة

ظافر بن حسن آل جبعان

إننا اليوم نعيش ثورة إعلامٍ جديدٍ مخيف، يُسهل للفرد أن يطرح ما يريد بحرية تامة، ويسر وسهولة، لقد أصبح بمقدور كل من يعرف القراءة والكتابة أن يشارك بما يشاء، ومتى شاء.

  • التصنيفات: موضوعات متنوعة -

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم اهدني وسددني

لقد امتن الله على بني البشر بنعم كثيرة لا تُعد ولا تُحصى، ومما امتن به عليهم أن ميزهم بالنطق، وأعطاهم أداته المحكمة، وعلمهم الأسماء ليحصل التواصل والتوافق، وهنا يقول الله عز وجل في سياق تقرير بعض نعمة على عبده: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ . وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ . وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن} [البلد:8-10]، فهذه المنن الجزيلة، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله، ويشكر الله على نعمه، وأن لا يستعين بها على معاصيه.
إن ما يُقال ويُكتب ما هو إلا مجموعة من الكلمات تُصاغ لتكون جملة مفيدة للقارئ أو السامع، بحيث يحصل للمتكلم أو للكاتب التواصل مع الناس لإيصال فكرته ومراده بكل يسر وسهولة.

إننا اليوم نعيش ثورة إعلامٍ جديدٍ مخيف، يُسهل للفرد أن يطرح ما يريد بحرية تامة، ويسر وسهولة، لقد أصبح بمقدور كل من يعرف القراءة والكتابة أن يشارك بما يشاء، ومتى شاء، وله كذلك أن يطرق من المواضيع ما يشاء، بل في أحيان كثيرة يتطاول كثير من السفهاء على مواضيع ليس لهم فيها لا زمام ولا خطام، ويزداد ذهولك عندما ترى بعض هؤلاء السفهاء في الفكر والعلم يترأس ذروة سنام الإعلام، ويحاول بصفاقة ظاهرة صفصفة الكلام ليُشعر المتلقي بأنه أهل ثقافة ومعرفة، وصاحب قلم وبيان، وفكر وتحليل، ولكن سرعان ما ينطق هذا المُتَعَالم، أو يكتب ذلك المتهالك فيكون أضحوكة للعقلاء، ومحل ازدراء للعارفين، وذلك بسبب أنه لم يستشعر أن الكلمة أمانة.

فالكلمة أمانة يجب حفظها وصيانتها، ووضعها في موضعها، فإذا فرط صاحبها في حقها، ودَلَّسَ ولَبَّس فيها كان ذلك منه خيانة. كل كلمة تقال فهي على العبد محصاة ولو نسيها فإن الله محصيها، {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:من الآية6]، فيحصي الله على العبد كل شيءٍ، فهو في كتاب  {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:من الآية49].
الكلمة ليست عبارة تلقى فحسب ثم تذهب أدراج الرياح، بل هي أمانة ذات غُنْم وغُرْم، قد يظن البعض أنه غير مؤاخذ بما يقول، فإن تلبس بهذه الشبهة فجوابها من الذي لا ينطق عن الهوى، يقول صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه لما سأله عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار، قال له في آخر الدلالة: «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟» قُلْتُ: "بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ". قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فقَالَ:«كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فَقُلْتُ:" يَا نَبِيَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟!" فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» (أخرجه أحمد والترمذي).

إن الكلمة التي تَخرج من فِي الإنسان إما ترفعه وإما ترديه، وإما تَسُره وإما تَضُره، فعلى هذا فالكلمة أمانة وأي أمانة؟! قد تكون الكلمة سببًا لسعادة بعض الناس، وقد تكون سببًا لتعاستهم وخسارتهم، يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِى بِهَا فِي جَهَنَّمَ» (أخرجه البخاري).

وعلى هذا فيجب على قائل أي كلمة أن يتبين فيها، ويعرف ما تؤل إليه حتى لا تكون شؤمًا عليه، يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ» (متفق عليه).

إن الأُمناء على الكلمة يعلمون ما يقولون، ويدركون ما يُريدون، ويَصْدُقون فيما يحدثون، وينصحون فيما يعتقدون، ولا يحملهم ظلم غيرهم لهم على ظلم أنفسهم بالكذب والزور عليهم، لا يختلقون الأقاويل، ولا ينشرون الشائعات، فهم أهل صدق ونصح، وعلم وبصيرة، لا يتأخرون عن كلمة الحق بحجة أنها لا تُسمع، فهم يعلمون أنه ما من بذرة طيبة إلا ولها أرض خصبة، فهؤلاء هم أُمناء الكلمة.

إننا اليوم نرى من الخيانات ما لا يحويه حاوٍ، ولا يجمعه جامع، خيانة في الكلمة على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، خيانة في تشويه الدين، وزعزعة الثوابت، خيانة في تلبيس الحق بالباطل، خيانة في الكذب في النقل، خيانة في تقديم من لا يُقدم، ورفع ما من حقه السُّفل، خيانة في الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، خيانة في سِبَابِ المسلمين وشتمهم، هذه المظاهر المؤلمة هي دوافع لحوابس في النفس تأبى تلك النفوس الرديئة إلا إظهارها.

إن خيانة الكلمة أصبحت  اليوم مهنة من لا مهنة له، فمن أراد الشهرة الرخيصة، فما عليه إلا أن يبيع أمانته، ويُرخص كلمته. وهناك من خان كلمته لأنه باع أمانته، فقد باعها لخائنٍ، وأجَّرها لفاسد، فكان في مقام الأتان يحمل الروث والدِّمْن، فكان صاحب كلمة مستأجرة، وروثة منتنة.
إن هؤلاء وأمثالهم لا علاج لهم إلا قرع مسامِعهم بواعظ القرآن إن كانوا يعقلون، يقول الله تعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ . كِتَابٌ مَّرْقُومٌ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المطففين:4-10].

وهنا أقول:
لو استشعر كل قائل أو كاتب أن كلمته أمانة لما تجرأ على الخيانة.
ولو استشعر كل قائل أو كاتب أنه سيُسأل عن كلماته لما تجرأ على الخيانة.
ولو استشعر كل قائل أو كاتب أنه سيقف بين يدي الله لما تجرأ على الخيانة.
ولو استشعر كل قائل أو كاتب أنه في سلامة ما حفظ أمانته لما تجرأ على الخيانة.
فليت كل من يكتب يستشعر هذه الأمانة، ويقف عند كل حرف وكلمة، ولا يسطر ببنانه إلا ما يسره في القيامة رؤيته، وصدق من قال:

وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إِلَّا سَيَفْنَى *** وَيُبْقِيْ الْدَّهَرُ مَا كَتَبَتْ يَدَاهُ
فَلَا تَكْتُبْ بِكَفِّكَ غَيْرَ شَيْءٍ *** يَسُرُّكَ فِيْ الْقِيَامَةِ أَنْ تَرَاهُ

وأخيرًا:
فاعلم واستشعر، واستظهر واستبصر، وتأمل وتدبر في: أن الكلمة أمانة، وبَخْسَها حقها خيانة.

المصدر: الموقع الرسمي للشيخ