الملا الذي حير أمريكا وحيرنا أيضا!!

ملفات متنوعة

لذلك فهو يعتقد أن النصر صار قريبًا، الأمر الذي لا يبدو مؤكدًا
بالطبع، لكن هذا المستوى من التضحية والصمود سيكون كفيلاً بهزيمة
المحتلين ..

  • التصنيفات: فقه الجهاد -


ليس معروفًا على وجه الدقة إن كان الملا محمد عمر قد علم مسبقًا بهجمات الحادي عشر من أيلول، أم أنه فوجئ بها كما الآخرون الذين لا زال بعضهم حتى اللحظة يشكك في نسبتها إلى أسامة بن لادن والقاعدة مستندًا إلى وقائع معينة تتجاهل في المقابل حقيقة أن هناك بشرًا معروفين بالاسم والرسم خططوا ونفذوا فقُتلوا أو اعتقلوا، وليس بالإمكان التعاطي معهم كما لو كانوا مجرد أرقام بين ضحايا كارثة كونية.

على أن العلاقة الخاصة التي كانت تربط الرجلين (الملا وابن لادن) وبيعة الثاني للأول لا زالت تشير إلى احتمال أن يكون الأول قد أحيط علمًا بالهجمات قبل وقوعها، وإن كان من الصعب الجزم بمدى إدراكه لحجمها، وتبعًا لذلك حجم ردة الفعل الأمريكية المتوقعة عليها، وما إذا كانت ستفضي إلى نهاية الإمارة برمتها كما وقع بالفعل.

أيًّا يكن الأمر، فقد وقع ما وقع، وصار زعيم طالبان أمام تهديد أمريكي صريح (تسليم أسامة بن لادن أو انتظار الحرب). هنا على وجه التحديد تبين معدن الرجل الذي جعله فريدًا في التاريخ الإسلامي، وربما الإنساني أيضًا، إذ رفض تسليم صاحبه من دون دليل على إدانته، الأمر الذي بدا شرطًا وُضع للتعجيز ليس إلا.


قال بعضهم: إن الرجل لم يغامر بشيء، فما كان بين يديه هو أطلال دولة من السهل المغامرة بها، بينما قال آخرون: إنه لم يتوقع الهزيمة، وفي الحالين لم يكن الكلام صحيحًا؛ إذ أن أي أمِّي لم يكن ليتوقع صمود الدولة الأفغانية الفقيرة أمام حلف الناتو وطائرات البي 52 التي تلقي أطنان المتفجرات فتُهلك الحرث والنسل. أما الدولة التي سخّفوها فكانت دولة على أية حال، أقله بالنسبة لطالبان وأميرها الذي كان زعيمًا يعيش حياة معقولة (لو اتفق مع تجار المخدرات الذين "يبيعون بضاعتهم للكفار" لحصل على المليارات!!)، بينما كان الخيار الماثل أمامه هو التحول إلى مطارَد يسكن الكهوف والجبال، مما يعني أننا إزاء حالة فريدة من المبدئية ، بصرف النظر عن الموقف مما يعتقده الرجل ويتبناه من أفكار وبرامج.

والحق أن من العبث الاعتقاد أن الملا كان العقبة الوحيدة في وجه تقدم أفغانستان تبعًا لأفكاره ومواقفه الفقهية المتشددة كما أشاع كثيرون، فهو في الأصل جزء من فضاء اجتماعي له طقوسه الراسخة، من دون أن ينفي ذلك إمكانية تطوره بمرور الوقت عبر التفاعل مع العالم الآخر، والذين قالوا إنه يمنع النساء من التعلم لم يعرفوا أن المشكلة كانت في توفر المدارس، والذين قالوا إنه يفرض البرقع عليهن لم ينتبهوا إلى أن غيابه عن الساحة لم يؤدِّ إلى سفور النساء في بلاده، أقله في المناطق التي تسكنها عرقيته (البشتون).


الأهم أن من العبث الاعتقاد بأن الأمريكان قد احتلوا أفغانستان من أجل تحرير المرأة الأفغانية أو الإنسان الأفغاني، أو أنهم احتلوا العراق من أجل منح العراقيين فرصة التمتع بالحرية والديمقراطية.

بالكثير من التسطيح، وأحيانًا الانتقائية المقصودة التي يمارسها صحفيون كسالى، كان المشهد الأفغاني يُنقل للعالم، الأمر الذي سيكشفه بسلاسة وروعة الصحفي المعروف تيسير علوني (فكَّ الله أسره) في كتاب سيصدر له قريبًا باللغة الإنجليزية (يترجم لاحقًا للعربية)، وهو الكتاب الذي أكرمني الصديق العزيز بالاطلاع على مسوداته.


اليوم يغدو الملا محمد عمر أكبر لغز يحيِّر الأمريكيين في ظل حالة الاستنزاف التي يعيشونها في أفغانستان، ولا يحدث ذلك إلا بسبب مبدئه وربما "ثوريته" التي حيَّرتهم، فقد أرسلوا إليه عشرات الرسائل المعلنة وغير المعلنة من أجل الحوار، لكنه تجاهلها على نحو مثير. وبينما يندلق إسلاميون في مواقع شتى على حوار الأمريكان والغربيين أملاً في كسب الرضا، فقد كان رد الرجل عليهم واضحًا حاسمًا: إذا لم تخرجوا من بلادنا فليس بيننا وبينكم إلا السلاح، وإذا قررتم الخروج سنوفر لكم طريقًا آمنًا لذلك.

بسبب هذه الروحية الفريدة من الحسم والوضوح، معطوفة على ممارسات المحتلين وأذنابهم، يزداد عدد مريدي الرجل، ويقول الأمريكان إنهم تضاعفوا أربع مرات خلال المرحلة الأخيرة. ولذلك فهو يعتقد أن النصر صار قريبًا، الأمر الذي لا يبدو مؤكدًا بالطبع، لكن هذا المستوى من التضحية والصمود سيكون كفيلاً بهزيمة المحتلين من دون شك، طال الزمان أم قصر.

24 - 10 - 2009 م

المصدر: ياسر الزعاترة - موقع الإسلام اليوم