التشديدة (10): يَسَّمَّعون

أبو محمد بن عبد الله

قد أفادتنا الآية في قراءة التشديد فمَنعت بِشَدَّةٍ بِشِدَّةٍ سماع الشياطين للملأ الأعلى، لأنها إن نفت التَّسمُّع أصلا، فمن باب الأولى أن تنفي وقوع السمع، لأنه هو وسيلته وذريعته..

  • التصنيفات: ملفات القرآن الكريم وبرامجه -

يَسَّمَّعون

يقول الله تعالى:  {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ، وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ، لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}[ الصافات: ٦ - ١٠]

{لا يسمعون} الضمير عائد إلى الشياطين الذين كانوا يسمعون الملائكة.

{ الْمَلَإِ الْأَعْلى}: يعني الكَتَبَة من الملائكة في السماء.

 {ويُقْذَفُونَ} : ويُرْمَوْن مِنْ كُلِّ جانِبٍ من آفاق السماء.

 {دُحُوراً} : يبعدونهم عن مجالس الملائكة، والدحر والدحور: الطرد والإبعاد.

{وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ} : دائم.

{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ}: مسارق فسمع الكلمة، {فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ}: تبعه ولحقه كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقتل أو يحرق أو يحيل، وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعاً في السلامة ونيل المراد كراكب البحر.

قراءتان:

{لا يَسْمَعون} ، بتسكين السين وتخفيف الميم، وهي قراءة الجمهور.

" {لا يَسَّمَّعون} " بتشديد السين والميم، وهي قراءة  حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ. أي لا يتسمَّعون، والتسمع طلب السمع وتَكلُّفه.

فالقراءة الأولى{يَسْمَعون}  تنفي السمع، سواء سواء تسمَّعوا وطلبوا الاستماع أم لا. فحتى وإن حاولوا لم يستطيعوا ذلك، ويؤيده قول الله تعالى:{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}  [الشعراء: 212].

 والقراءة الثانية { يَسَّمَّعون}  تنفي أن يقع منهم استماع، أي أنهم لا يطلبون السماع ولا يحاولونه.

والواقع أنه كما قالوا هم عن أنفسهم لمَّا جاء الوحي واستنارت جنبات الكون به، مُنِعوا من السمع بعدما كانت لهم مقاعد للسمع: {وأنّا لمسنا السماء فوجدناها مُلِئت حرسا شديدا وشُهُبا، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع؛ فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصداً} [الجن: 8-9]. مرصود سلفاً معدود مسبقاً لمن يحاول التَّسمع من الشياطين، كما قال تعالى: {ولقد زيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير} [الملك: 5].. وهذه الرجوم من الشهب الثاقبة في السماء الدنيا، القريبة، فهم ممسوكون بعيدا مدحورون عن السمع.

فهم كانت لهم مقاعد يتراكبون فيها ويستقرُّون فيها للسمع، أمَّا الآن فمن حاول أن يَتَسَّمع في تلك المقاعد يُمنع ويرمى بالشهب الحارقة، فلا يفلت منهم أحد، وبالتالي ينتفي سماع مَن أرسلوهم أيضا من الكَهَنَة والمشوعذين.

وهذا الاستثناء واضح لمن استرق السمع وخطفة خطفة، فإنه تتبعه الشهب الحارقة الثاقبة: {لا يّسَّمَّعون إلى الملأ الأعلى ويُقذفون من جانب دحوراً، إلا من خطفة الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب} [الصافات:8]، فحتى الخاطف تلاحقه الشهب.

فحتى وإن تسمَّع بعضهم وطلب التَّسمُّع فهم في حكم من لم يتسمَّع. وإلا فاللفظ أنهم لا يطلبون السماع لما رأوا من المنع القذف والشهب، وامتناع الاستماع، ومن تسمَّع منهم فإنه لا يسمع، وإن خطف خطفة لم يفرح  بها، لا هو ولا مَن خلفه.

وقد وردت أحاديث تفيد أن:" الشياطين كانت تصعد إلى السماء فتقعد للسمع واحدا فوق آخر يتقدم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه فيقضي الله تعالى الأمر في الأمور في الأرض، فيتحدث به أهل السماء، فيسمعه منهم ذلك الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته، فربما أحرقه شهاب وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه جملة فينزل تلك الكلمة إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة، فتصدق تلك الكلمة، فيصدق الجاهلون الجميع، فلما جاء الله تعالى بالإسلام حرست السماء بشدة فلم يفلت شيطان سمع البتة".

وقد أفادتنا الآية في قراءة التشديد فمَنعت بِشَدَّةٍ بِشِدَّةٍ سماع الشياطين للملأ الأعلى، لأنها إن نفت التَّسمُّع أصلا، فمن باب الأولى أن تنفي وقوع السمع، لأنه هو وسيلته وذريعته..

فسبحان ربِّي  بالغ الحكمة والبيان...

المراجع: تفاسير: سراج الدين النعماني، الثعالبي، ابن كثير، ابن عطية، الطاهر بن عاشور..

13 رجب 1437 (20‏/4‏/2016)