مجزرة أسطول الحرية.. رؤية جديدة

راغب السرجاني

طالبت الصين على لسان المتحدث باسم وزارة خارجيتها باحترام القانون
الدولي وبإنهاء الحصار الذي تفرضه على قطاع غزة، واصفًا الوضع بالشرق
الأوسط بأنه يمر بمرحلة دقيقة. ودعت كل من روسيا والاتحاد الأوربي إلى
فتح فوري للمعابر من وإلى قطاع غزة ..

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -


عايشتُ الساعات الأولى لحملة أسطول الحرية المتجهة إلى غزة المحاصرة- والتي قادها أكثر من 750 ناشطًا حقوقيًّا وإغاثيًّا من 40 دولة من دول العالم، منهم 100 سيدة و400 تركي و100 عربي، والباقون من الاتحاد الأوربي والمنظمات الحقوقية- بل وشاركتُ بشكل مباشر في جمع التبرعات لتمويل هذه الحملة من خلال عدة مؤتمرات في كثير من المدن الإيطالية، وغمرتني سعادة كبيرة أن أصبحت القضية الفلسطينية محل اهتمام المنصفين في العالم رغم اختلاف أعراقهم ولغتهم ودياناتهم، وتحرك قلبي مع تحرك الأسطول من ميناء أنطاليا التركي يوم 28 مايو الماضي، وكلي أمل أن يصل سالمًا إلى أهلنا في غزة بما يحمله من مساعدات إنسانية متنوعة، منها ستة آلاف طن من الحديد، وألفا طن من الإسمنت، إضافةً إلى مولدات كهربائية وأجهزة طبية وأدوية، وكمية كبيرة من المعونات الغذائية والدوائية.

ولكن حدث ما لا تشتهيه الأنفس، وضرب الكيان الصهيوني الأسطول وأوقع مجزرة جديدة تكتب في تاريخه الأسود، وسقط 19 شهيدًا وجرح أكثر من 70 ناشطًا أغلبهم من الأتراك، فعندها تذكرت قول الله تعالى عن غزوة بدر: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } [الأنفال: 7]. لقد خرج صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لطلب عير قريش، ولكن الله- سبحانه وتعالى- كان يريد لهم شيئًا آخر، وخيرًا عظيمًا لن يتحقق بحصولهم على العير.

اللافت للنظر أن القائمين على تجهيز أسطول الحرية لم يألوا جهدًا في تجهيزها، فقد استكملوا كل الأسباب التي تؤدي إلى نجاحها ووصولها بأمان إلى أهل غزة دون أن يتعرض لها الكيان الصهيوني، حيث ضمت عددًا لا بأس به من البرلمانيين الأوربيين والحقوقيين الدوليين، وكذلك فإن أغلب الأسطول من الأتراك الذين تربطهم علاقة وثيقة بالكيان الصهيوني، كل هذا أحدث نوعًا من الضغط الإعلامي المتميز الذي يؤدي إلى نجاح مهمة الأسطول، ولكن أبى الله إلا أن يحدث أمرًا آخر.



لقد اتخذ الكيان الصهيوني بقيادة نتنياهو وباراك قرارًا بضرب أسطول الحرية، كما اتخذ أبو جهل قرارًا بخروج قريش لـ"بدر" رغم نجاة القافلة التي كان يقودها أبو سفيان، فكان في ذلك هلاكه وهلاك عدد كبير من صناديد الكفر، وسيكون في ذلك هلاكهم بإذن الله.

ولنا مع مجزرة أسطول الحرية عشر وقفات كاملة تثبت لنا قوله تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة:216].
 


الوقفة الأولى: سقط في مجزرة الحرية 19 شهيدًا، هؤلاء الشهداء هم وقود النصر المرتقب، فدماء الشهداء دائمًا ما تزكي القضية وتقدمها خطوات للأمام، فأبشروا بالنصر، وصدق الله العظيم القائل: { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ . سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ . وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 4-7].
 


الوقفة الثانية: بعد هذه المجزرة ستشهد الأيام القادمة انقلابًا كبيرًا في العلاقات بين تركيا والكيان الصهيوني، بدأ بخطاب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان عقب وقوع المجزرة، والذي حذر فيه الكيان الصهيوني من معاداة تركيا؛ لأن عداوتها قوية مثل صداقتها. كما ألغى ثلاث مناورات عسكرية مع الكيان الصهيوني، ومباراة كرة القدم لمنتخب بلاده للشباب مع الصهاينة، واستدعى السفير التركي من تل أبيب، ودعا المنظمات الدولية والإقليمية للاجتماع لبحث هذه الجريمة.

كما صرح أردوجان خلال اتصال هاتفي مع رئيس الحكومة إسماعيل هنية بعد وقوع المجزرة قائلاً: "سنظل ندعمكم مهما كان الثمن ولو بقينا وحدنا".

يُذكر أن علاقات تركيا بالكيان الصهيوني قد شهدت في السنوات الأخيرة توترًا ملحوظًا، زاد بشدة بعد الحرب التي شنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة نهاية عام 2008م، حيث أعلنت تركيا رفضها لهذه الحرب، ورفضها أيضًا للحصار المفروض على القطاع منذ منتصف العام 2006م، وكان انسحاب أردوجان من إحدى جلسات منتدى دافوس الاقتصادي العالمي بعد مشادة كلامية مع الرئيس الصهيوني شمعون بيريز عاملاً آخر من عوامل زيادة التوتر.



الوقفة الثالثة: خسر الكيان الصهيوني بعض علاقاته المتميزة مع بعض الدول الأوربية التي لها تمثيل برلماني وحقوقي ضمن أسطول الحرية، ومنها على سبيل المثال بلجيكا، وكذلك السويد التي أعلن رئيس الاتحاد السويدي لكرة القدم لارس اكه لارغل إلغاء مباراة لكرة القدم كانت مقررة بين منتخب بلاده للشباب والكيان الصهيوني قائلاً: "ككل الناس، نحن مشمئزون من العنف ومندهشون مما شاهدناه، ولم يكن من المنطقي خوض المباراة في ظل هذه الظروف". وأضاف: "أن الاتحاد السويدي سيقبل بأي قرار يتخذه الاتحاد الأوربي، ردًّا على إلغاء المباراة".

بل امتد أثر هذه المجزرة إلى جمهورية نيكاراجوا التي أعلنت عن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني؛ ردًّا على المجزرة التي ارتكبها بحق (أسطول الحرية). يذكر أن فنـزويلا وبوليفيا قد قطعتا علاقاتهما الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني بعد حرب غزة الأخيرة.
 


الوقفة الرابعة: مجزرة أسطول الحرية أحيت القضية في قلوب الكثيرين داخل البلاد الإسلامية وخارجها؛ فالنفس الإنسانية قد يصيبها الملل والخمول من تكرار بعض الأحداث، بل قد يعتريها نسيان القضية من الأساس، ولكن الله يأبى إلا أن تظل القضية الفلسطينية محط أنظار العالم كله، فتُحيى في قلوب العالمين بمثل هذه الأحداث، وصدق المثل القائل: "رامية بغير رام". وما شهده العالم من مظاهرات وفعاليات بعد هذه المجزرة خير شاهد على ما نقول، فقد تظاهر الآلاف في تركيا واليونان وباريس وبريطانيا ومصر وأمريكا وفرنسا وإيران... وغيرها ضد هذا الاعتداء المجرم، كما حاول المتظاهرون اقتحام بعض السفارات الصهيونية في أغلب هذه الدول.
 


الوقفة الخامسة: هذه المجزرة فرصة للجاليات الإسلامية في الغرب والأحرار في العالم أن يستغلوا ما حدث من غطرسة وحمق من الكيان الصهيوني، ويشرحوا للعالم عدالة القضية الفلسطينية، وهذا شيء منطقي في ظل حدث مجرم كهذا، وما يحدث من مظاهرات عالمية يخرج فيها الأحرار في كل مكان بداية يجب أن يعقبها خطوات على هذا الطريق، وإصرار هؤلاء الأحرار على خروج أسطول جديد للحرية يحمل معونات أخرى لغزة يؤكد أن القضية الفلسطينية ستصبح حديث العالم خلال الأيام القادمة، وهذا ما أكده الدكتور محمد البلتاجي عضو مجلس الشعب المصري، وأحد المشاركين في هذه الحملة قائلاً: "لقد اتفق كل المشاركين في الحملة الأولى لأسطول الحرية، الناجون من المجزرة الصهيونية على تسيير أسطول الحرية الثاني، وأن المجزرة زادت من حماسة الأحرار حول العالم لتقديم المزيد من الدعم وإخراج العديد من أساطيل السفن لقطاع غزة".
 


الوقفة السادسة: رغم تخلف العالم الإسلامي إعلاميًّا وسيطرة الإعلام الصهيوني على معظم القنوات الفضائية والصحف والمجلات إلا أن مجزرة أسطول الحرية فرضت نفسها على كل وسائل الإعلام العالمية صهيونية وغير صهيونية، والتي بدأت في عرض الحدث بصورة شبه منصفة، وحمّلت الكيان الصهيوني مغبة ما حدث وفشله الذريع في التعامل مع مدنيين يحملون معونات إنسانية للشعب الفلسطيني المحاصر في غزة. فها هي صحيفة واشنطن بوست تعلن فشل الجيش الصهيوني في التعامل مع أسطول الحرية مما أثار العالم كله، وتؤكد أن سماح الكيان الصهيوني للأسطول بدخول غزة أفضل من إرسال قوات خاصة لاعتراضه، وسردت الصحيفة بعض تبعات هذه الأزمة على الكيان الصهيوني، مثل الإدانات المستمرة على مدى أشهر، وتعرض عملية السلام للخطر، وكذلك العلاقات الصهيونية التركية.

كما أكدت صحف الكيان الصهيوني ضعف وفشل الجيش، وطالبت وزير الدفاع إيهود باراك بالاستقالة فورًا، وقالت صحيفة معاريف: "إن العملية البحرية أمام شواطئ غزة، كانت سخافة مطلقة، وخليطًا من الإخفاقات التي ولدت حفلة مخجلة".
 


الوقفة السابعة: أثر هذه المجزرة التي تعرض لها أحرار العالم على شعب غزة عميق وإيجابي إلى أبعد الحدود، يفوق عشرات المرات الأثر الذي يتركه وصول الأسطول إلى غزة سالمًا؛ لأنه ألقى في قلوبهم العزيمة والصمود وسط هذا الحصار البغيض، ولقد اعترف الكيان الصهيوني بفشله في كسر إرادتهم، فقالت صحيفة هآرتس الصهيونية: "إن الحصار على غزة أخفق ولم يضعف حماس، وقد فرضته الحكومة السابقة، وتخشى الحكومة الحالية إلغاءه؛ لئلاّ تتهم بالضعف".

ثم ها هم أحرار العالم يرسلون رسالة صمود أخرى إلى المحاصرين في غزة: نحن نشعر بكم، ومستعدون للتضحية بأرواحنا من أجلكم، ومن أجل كسر الحصار الذي فرضه الكيان الصهيوني عليكم.
 


الوقفة الثامنة: كشفت هذه المجزرة الأنظمة العربية والإسلامية المترهلة التي لا تعمل إلا بأوامر من الولايات المتحدة، والتي لا تحرك ساكنًا في قضية مصيرية كقضية فلسطين، ولا تشعر بشعبها الذي يمتلئ بغضًا من أفعال الكيان الصهيوني، واكتفت أغلب الأنظمة بالشجب والاستنكار لما حدث، ولم تسعَ لقطع العلاقات الدبلوماسية مع هذا الكيان المجرم الذي يقتل المدنيين بلا رحمة، ولم تتحرك لمقاطعته سياسيًّا واقتصاديًّا، فهذه هي اللغة التي يدركها الصهاينة، لغة القوة في المواقف والأفعال.
 


الوقفة التاسعة: بعد مجزرة أسطول الحرية ظهرت بوادر جديدة تدعو الفصائل الفلسطينية إلى التواصل والالتحام من أجل مواجهة الكيان الصهيوني المعتدي، فخرج بعض قادة الفصائل يعلنون إدانتهم لهذا الحدث الإجرامي البشع، ودعوتهم للمصالحة كما حدث من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، واستقبال حماس لهذه الدعوة بالترحاب، وهذا ما عبر عنه خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس قائلاً: "ما يجري الآن بمنزلة (لحظة تاريخية) للمصالحة الفلسطينية، ونحن في حركة حماس مستعدون لتوقيعها، ونطالب سلطة فتح بإنهاء التنسيق الأمني مع الاحتلال الصهيوني، ورفض المفاوضات معه؛ لأنها لا تخدم إلا الكيان المحتل". وأضاف: "تعالوا- لحركة فتح- نتصالح على ثوابتنا وحقوق شعبنا ومقاومة الاحتلال، وترتيب بيتنا الفلسطيني في إطار السلطة والمنظمة، وتعزيز ديمقراطيتنا، وتعزيز شراكتنا معًا".
 


الوقفة العاشرة: حركت هذه المجزرة مشاعر العالم أجمع، فبدأ تحرك عالمي نشط يدعو إلى (فك الحصار) عن غزة ودخول المعونات، كما يدعو إلى إعادة إعمارها بعد اعتداء الكيان الصهيوني الأخير عليها، فها هي وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون- ولأول مرة- تصف الوضع في قطاع غزة بأنه غير مقبول ولا يمكن أن يستمر، وطالب بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة سلطات الاحتلال الصهيوني برفعٍ فوريٍّ للحصار المفروض على قطاع غزة، واصفًا الحصار الصهيوني بأنه "خطأ لا يمكن احتماله".

كما طالبت الصين على لسان المتحدث باسم وزارة خارجيتها باحترام القانون الدولي وبإنهاء الحصار الذي تفرضه على قطاع غزة، واصفًا الوضع بالشرق الأوسط بأنه يمر بمرحلة دقيقة. ودعت كل من روسيا والاتحاد الأوربي إلى فتح فوري للمعابر من وإلى قطاع غزة أمام المساعدات والسلع والمواطنين، كما طالبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بإنهاء الحصار المفروض من جانب الكيان الصهيوني على قطاع غزة، وقالت في مقابلة تلفزيونية إنها أجرت اتصالاً هاتفيًّا مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، طالبته فيه برفع الحصار؛ "لأنه أمر غير سليم، انطلاقًا من الدواعي الإنسانية". وفي نفس السياق ربطت تركيا على لسان وزير خارجيتها أحمد داود أوجلو بين إعادة علاقاتها مع الكيان الصهيوني برفع الحصار المفروض على قطاع غزة.



هذا ما نراه بأعيننا، ولكننا على يقين أن ما لم ندركه بعد من الخير سيظهر لنا تباعًا مع مرور الأيام؛ لندرك في يقين أن الله- سبحانه وتعالى- يدافع عن الذين آمنوا، وصدق ربنا القائل: { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].

ولا يعنى هذا أننا سعداء لحدوث مجزرة أسطول الحرية البشعة التي أحزنت القلوب وأدمعت العيون، ولكننا ننظر برؤية جديدة للحدث، نقرأ من خلالها عظمة تدبير الخالق- سبحانه وتعالى- الذي يدبر ويعلم صدق إخواننا المحاصرين في غزة، ونجاحهم في الابتلاء الرهيب الذي وضعوا فيه منذ أعوام، وصدق الحق- تبارك وتعالى- القائل: { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال:30]. وفي ذلك عبرة لأولي الألباب.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ونسأل الله- سبحانه وتعالى- أن يعز الإسلام والمسلمين.
 

الخميس 3 يونيو 2010 م
 

المصدر: موقع قصة الإسلام