جسدي و أنا حرة !!

حميد بن خيبش

  • التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة -


في محطات الإفلاس الأخلاقي من حياة كل أمة،يصبح المقيم عرضة للمساءلة من لدن الوافد،بل ومهددا بالاقتلاع و النفي خارج مدار الفهم ! تلك هي قصة الثوابت والقيم حين تقف مطأطئة الرأس في قفص الاتهام،نادبة حظها كالأيتام في مأدبة اللئام،بينما يصول الانفلات ويجول محذرا من تداعيات إطلاق سراحها.قد يبدو المشهد مسرحيا وغير قابل للتصديق،لكن الوقائع تسنده وتؤكد التصاقه بالحياة اليومية.فالقيم التي شكلت حتى الأمس القريب لحمة المجتمع الإنساني،والضامن لتماسكه و استمراريته على نحو أسمى وأرفع مما يشهده عالم الحيوان،تئن اليوم تحت ضربات موجعة توشك أن تقتلعها ليخلو الجو للغرائز كي ترتع،وتلخص الوجود الإنساني في رحلة إشباع لا ترتوي.
سبق لعالم النفس والناقد الاجتماعي الألماني "إيريك فروم "،في تناوله للتقابل الأزلي بين التملك و الكينونة ،أن خلص إلى أن خلق مجتمع جديد يستلزم توفير الظروف التي تتيح للناس أن يحيوا الحياة الطيبة الصالحة والفرحة الصافية،لا أن يستهلكوا العمر في إشباع الحد الأقصى لدوافعهم الشهوانية.ويشدد في أعماله المتطرقة لقضايا التغير الاجتماعي على أن المجتمع حين يضع الإنسان أمام مطالب تنافي طبيعته،فإنه يغذي ميله للعزلة و تدمير الذات،بل و الجنون المؤدي لنسف المجتمع برمته.ويبدو أن الاحتفاء العولمي المتزايد بالجاذبية الجنسية، و تسليع الذات لهو تعبير عن هذا الجنون المحطم للمعنى،و الفاقد لأية نزعة إنسانية تبرر   مواصلة العيش تحت سقف واحد !
الاحتفاء الزائد بالجسد،واختزال المرأة في وجه جميل وقَد رشيق أضحى اليوم ثقافة سائدة في المجتمع الإسلامي،ومعيارا تحتكم إليه الأجيال الناشئة من بناتنا،خاصة في ظل تبعية إعلامية تقذف بكل صيحة في الضفة الأخرى إلى بيوتنا،عبر الوصلات الإشهارية،و الإنتاجات الدرامية،وألعاب الأطفال.وسرعان ما بادرت بعض الأسر المسلمة،التي تنسمت حديثا الهواء الملوث للثقافة الوافدة،إلى إدانة مفاهيم الحياء و الحشمة باعتبارهما حرمانا للفتاة من حقها في التصرف و السلوك على نحو مساو للصبي.فكان من الطبيعي أن يفقد جسد المرأة حرمته كشأن خاص،ليصبح شأنا عاما،يرتبط إعلاميا بالنجومية و الشهرة والأضواء،ويسهم مجتمعيا في توليد انحرافات أخلاقية لم تُجد ترسانة القوانين اللاحقة في القضاء عليها.أما المبررات التي تم سوقها، و التمهيد من خلالها لهذا الانحراف و التحلل من القيم الناظمة للمجتمع فيمكن إيجازها على النحو الآتي :
تمثلت الخطوة الأولى في الادعاء بأن بعض تعاليم الشريعة تحرض على التمييز ضد المرأة، وهو ما تضمنته صراحة الاتفاقية التي تمخض عنها مؤتمر الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقد سنة 1979 تحت شعار ( القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة).فتم إخضاع أحكام دينية متعلقة بالإرث و التعدد و الحجاب للمساءلة و الأخذ و الرد،كأن الذي بين أيدينا ليس وحيا منزلا،بل رزنامة قوانين موروثة عن حضارة غابرة! وصادف الأمر خلو طرائقنا التربوية،سواء الأسرية أو المدرسية,من التمرير السلس لمدلول الآية الكريمة "و ماكان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم،ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا " الأحزاب-36- ،فنشأت أجيال ترى في القرآن الكريم و السنة المطهرة إرثا دينيا يتلى للتبرك و استمطار الرحمات،بينما أحكامه لا تلائم العصر و متطلباته.
أما الخطوة الثانية فتولى كبرها الإعلام من خلال تطويره نموذجا للجمال تتحرر عبره المرأة من كل المرجعيات لتصبح "شيئا" مثيرا يحرض على التحديق فيه وتأمله.كما تم إيهامها بأن الجمال الجسدي هو المعيار الوحيد الذي يحتكم إليه الرجل في تقييمه للمرأة،و لا سبيل لذلك غير محاكاة النماذج المقدمة عبر الوسائط الإعلامية المختلفة،من السينما حتى المجلات و الأغاني المصورة ومواقع الإنترنيت.لكن هل الأمر كذلك بالفعل،أم أننا بصدد خدعة منسوجة بدهاء؟ يقول الدكتور حسام الدين إسماعيل :" الجمال الذي تقدمه وسائل الإعلام على أنه موضوعي وقابل للتحقق هو من المستحيلات،لأنه لا يمكن حيازة مثل هذا النوع من الجمال المثالي المعتمد على قشرة خارجية زائفة من الدهانات الهوائية للبشرة،وخداع الكومبيوتر. فضلا عن أن معايير الجمال تختلف من عصر إلى آخر،ومن ثقافة إلى أخرى.لذا فالجمال ذاتي تحدده الثقافة، وليس موضوعيا عالميا أو كوكبيا"(الصورة و الجسد.189)
وتركزت الخطوة الثالثة حول تحقيق الاندماج التام بين الجمال والعري،وإقناع المرأة بأن كونها جميلة لا يعني بالضرورة اقتناءها أفخم الثياب و أغلى المجوهرات والحلي،بل الجمال الحقيقي رهين بقدرتها على التجرد من ثيابها قطعة قطعة !والكشف عن مفاتن جسدها لتحقيق أعلى قدر من الإثارة و الجاذبية الجنسية.وتولى مصممو الأزياء و العارضات مهمة إضفاء قدر لا بأس به من الإباحية على المقياس الحديث للجمال،فصارت الحركة المثيرة مكملة للجسد شبه العاري،ليفقد الاحتشام مبررات وجوده في مجتمع يطمح للتحرر من "ثياب" السلف !
جرى التطبيع مع العري كممارسة اجتماعية وحرية شخصية من خلال مزجه ب "نكهة" ثقافية وعلمية تبرره. فاستعان دهاقنة الإعلام بافتراضات أنثربولوجية مفادها أن البشر عاشوا في الأصل عراة, وأن "اختراع" الملابس لم يكن بغرض التستر و الاحتشام بل فقط لأسباب مرتبطة بالعادات و السحر و المكانة الاجتماعية.وهو الافتراض ذاته الذي يتكئ عليه اليوم مناهضو الحجاب في العالم الإسلامي لتحرير المرأة من طاغوت الذكورة !
في حين انصبت الخطوة الرابعة حول إضفاء لمسة "فنية" على الجسد المكشوف للسمو بدلالاته ورمزيته،والاحتفاء بالعري كممارسة ثقافية.فبرز في بلادنا أدباء وفنانون يلتمسون في البذاءة الجنسية،و البوح بما يجري في غرف النوم جرأة مطلوبة لتحرير المجتمع من الكبت و القهر و الطغيان.وبدل أن يكون الحديث عن المرأة في الأدب أو تجسيده في العمل التشكيلي أو السينمائي ثمرة تجربة حياتية تعكس هموم المرأة وانشغالاتها،تم الاحتفاء فقط ببوح "الأنثى" وعلاقاتها العابرة.يقول الدكتور عبد الله حسين: " إذا كان بعض كتابنا المعاصرين يختارون الجانب المنحل من المجتمع ليقفوا إلى جواره،مدافعين عن أهدافه الممقوتة،وغاياته الشريرة،وأساليبه الحقيرة،فإن ذلك يشكل أزمة حقيقية لا شك في ذلك..أزمة من الضمير الأدبي و الثقافي عند الكاتب،قبل أن تكون أزمة الافتئات على حرية الإبداع."( أزمة الأدب وحرية الإبداع.الأهرام المصرية 2-3-2001).
أما خامسة الأثافي، إن صح التعبير،فهي ألعاب الأطفال التي لم تسلم بدورها من الإيحاء بالعري و تمجيد الأنوثة المفرغة من كل معيار آخر غير العناية المفرطة بالجسد.سواء الدمى والألعاب المصنوعة،أو البرامج المصممة للفيديو و المواقع الإلكترونية. فسوق الألعاب اليوم مثال صارخ على المستقبل كما تخطط له الإيديولوجية الإباحية.فقد أذاعت قناة " سي.إن.إن" تقريرا عن ألعاب الفيديو التي استحوذت على نشاط الأطفال في البيوت الأمريكية،وخلصت إلى أن هذه الألعاب أكثر دعارة من ذي قبل.فمجموعة "بلاي بوي" الإعلامية أنتجت برامج فيديو تقوم فيها الفتيات بالتجرد من ملابسهن قطعة وراء قطعة كلما تقدم اللاعب في اكتشاف ركن من منزلهن الكبير،أما لعبة "بذلة لاري الفاخرة" فتقوم على اختيار شخصيتين عاريتين يجمعهما اللاعب في علاقة حميمة ! وبما أن الأنترنيت يتمتع بخاصيتي المرونة وصعوبة المراقبة،فللمرء أن يتخيل حجم التأثير الذي تحدثه ألعاب مماثلة، وشائعة في كل أرجاء الشبكة التي يصفها الدكتور حسام الدين إسماعيل ب"جنة العري الإعلامي".
يكشف واقعنا اليومي عن سلوكيات وآراء تنم عن الحيرة بين مرجعيتين : خطاب الدين و الفطرة الذي يستحث الإنسان للتطلع إلى ما يحقق له السمو سواء في علاقته بذاته ،أو صلته بالعالم من حوله،وخطاب إعلامي سفلي وخادم للغرائز،يكبل العقول و الأذواق،ويمنح الإسفاف و الانحلال مبررات وجوده و استمراريته..حيرة لا تكفي الصيغ الوعظية و الخطب المنبرية لتبديدها إن لم تصحبهما قراءة ناضجة لمتطلبات جيل ناشئ بأسره !