(9) مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء

محمد علي يوسف

من اختار الظلمات وعاين حسرتها في الدنيا قبل الآخرة؛ تلك الحسرة البغيضة والغصة المريرة وذلك الألم القاسي الذي يعرفه جيدا كل من ذاق وعرف ثم لم يغترف.

  • التصنيفات: التصنيف العام - أعمال القلوب -

الإيمان وما أدى إليه  نور ذلك الأصل هو من أظهر الأصول ومن أوضح الصور التي يرسخ القرآن لها ويغرس حقيقتها في النفوس.

الوحي هو الضياء الذي يكشف للإنسان دربه ويبين له معالم طريقه {وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} .

أنوار كاشفة تضيء للإنسان عتمة الطريق وتبين له سبيل الهدى الرشاد... منبع البصر ومحل الرؤية الصحيحة الواضحة التي تنتشل المؤمن من الأخرى... من الظُلمات.

 

من دون ذلك النور الذي يستضيء به الإنسان وتلك البصائر التي يهتدي بها = ستكون الظلمات.

 

سيتخبط المرء لا محالة في عتمة كالحة وظلام دامس، وهذا هو الأصل المكمل والصورة المقابلة {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}.

 

إنها المقابلة الحاسمة بين حي يسير في الضياء ويمضي بنور من الله وآخر ميت خاوي النفس منزوع الروح حبيس بين أمواج ظلمات كالحة {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} .

ظلمات الشك والنفور.

ظلمات الهوى والاستسلام لقيود الشهوة.

ظلمات الفجور والعصيان.

ظلمات الشرك والجحود والنكران.

لكن المقابلة ليست دوما بهذا التمايز ولا يشترط أن تكون بهذا الشكل الواضح من المفاصلة، ثمة أقوام يتذبذبون بين المنطقتين، أقوام يستضيئون بنور الوحي لوهلة حتى يكاد أن ينير حياتهم ويستبينون به طريقهم ثم لا يلبث إلا أن يخفت من جديد في نفوسهم ويختاروا إكمال الطريق من دونه، يختاروا الظلام ويفضلوا العتمة... إنهم المنافقون مرة أخرى {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}.

هذا المثال القرآني من سورة البقرة في مستهل الحديث عن المنافقين في القرآن يعد من أخطر الأمثال القرآنية على الإطلاق إنه يبين حالة من حالات الاختلاط التي قد يتعرض إليها الإنسان في سيره إلى الله، يبين أن من المنافقين صنفا لم يخل واقعه من ومضات نور ولحظات رؤية... لم يكن الظلام من البداية = أمرا واقعا لا مناص عنه ولا فكاك منه، ولم يكن العمى هو الخيار الأوحد.

لقد مرت بهم يوما لحظة ضياء {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُولعل منهم من استوقد ما ولَّد هذا الضياء، قد يكون ذلك بمجيئهم إلى حامل الوحي ابتداء وسماعهم منه، وقد يكون بنطق للشهادتين ولزوم المؤمنين وشهود صلاتهم التي لم يك يتركها إلا معلوم نفاق، وقد يكون ببدايات قبول لذلك المصباح المبهر الذي يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار.

قد يكون كل ذلك أو شيء منهالمهم أن ثمة ضياء أحاط بهم لوهلةلكنه لم يستمرلقد ذهب النور وعادت الظلمات {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَومعها جاء العمى، وأتى معه الصمم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} لكن لماذا؟

ما السبب الذي أذهب هذا النور الذي كاد أن يضيء واقعهم جنبا إلى جنب مع واقع من سيسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم؟

أولئك الذين كانوا يوما معهمكانوا يتسمون بأسمائهم ويتدثرون بذات زيهم وربما كانوا يصلون إلى جوارهمالإجابة ستأتيهم يوم القيامة حين يتبادر نفس السؤال إلى ألسنتهم حين يلتمسوا النور لدى المؤمنين فيقال: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}
حينئذ ينادونهم: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} فتأتي الإجابة الكاشفة الفاضحة{قَالُوا بَلَىٰ}...

{وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}

هم من اختاروا... هم من قرروا... هم من فتنوا أنفسهم وتربصوا وارتابوا، وهم من غرتهم الأماني وأغفلتهم الدنيا... هم من رفضوا النور وأغلقوا كل السبل التي قد يصل إليهم من خلالها.

هم من اختاروا العمى والصمم وعطلوا حواسهم بإرادتهم{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ۚ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَإنه المثال المكمل للأولالخير النازل إليهم من السماء وما فيه من وعد ووعيد وترغيب وترهيب هاهم يرفضونه ويتجنبونهيضعون الأصابع في الآذان كي لا تسمع شيئا من ذلك كلهلكنهم مع ذلك لم يزالوا على تلك الحال المذبذبة المترددة.

إن نور الوحي مبهر وضياؤه يجذب كل بصر، ولم تكن أبصارهم استثناء{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْحينها مشوا وسلكوا مع من سلك {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} لكن ما أن تسنح لهم الفرصة وتبدر لحظة خفوت في نفوسهم = تسللوا وانصرفوا {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إنها آيات تصور بدقة تلك الحالة المخلطةحالة المنافق المتردد المتذبذبحالة من ذاق وعرف لكنه لم يغترف.

من اختار الظلمات وعاين حسرتها في الدنيا قبل الآخرة؛ تلك الحسرة البغيضة والغصة المريرة وذلك الألم القاسي الذي يعرفه جيدا كل من ذاق وعرف ثم لم يغترف..

يعرفه كل من أبصر الطريق وأضاء له فمشى فيه ثم إذا أظلم عليه قام وولَّى وأدبر واستكبر، يعرفه كل نكص على عقبيه واختار حوراً بعد كور وإعراضا بعد إقبال وتدنٍ بعد ارتقاء وبدّل نعمة الله وحشةً ونفورا وازدراء فذاق في الدنيا ضنكا وذلا وبُعداً بعد اقتراب.

تلك الحسرة والغصة والألم والضنك = هي نتائج معتادة ومتوقعة ومتكررة ينبغي أن تجعلك تفكر كثيرا قبل أن تختار طريقها طوعا وتسلك سبيلها بإرادتك... حين تتخذ هذا القرار المؤلم والاختيار الرهيب.

اختيار الظلام

اختيار النفاق