​​​​​​​مكارم الأخلاق :المقال الثاني

خالد سعد النجار

وانتصر على الفرس في موقعة «ذي قار»، فهذا الرجل احتقر حياة الذل والاستكانة، ورأى الموت شرفاً في ساحة العز.

  • التصنيفات: الآداب والأخلاق -

{بسم الله الرحمن الرحيم }

 

مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم .. سنة الأنبياء، وصراط العقلاءِ، ومختار النبلاءِ، ومجد الفضلاء .. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ) [البيهقي]

في حرب البسوس الشهيرة قاد الْحَارِثِ بْنِ عُباد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم مُهَلْهِلِ بْنِ رَبِيعَةَ [الزير سالم] الذي قتل ولد الحارث «بُجَيْرَ» حين أرسله ليصلح بين بكر وتغلب .. قتل بجير وقال: (بؤ بشسع نعل كليب) [أي أنت تساوي نعل كليب، ولا يكفيني في كليب إلا قتل آل مرّة جميعا]، فأسر الحارث مهلهلاً وهو لا يعرفه فقال له: دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك، فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم. قال: فأنا هو، فجز ناصيته وتركه. وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار.

كما حُكي أن النعمان بن المنذر ملك الحيرة باني الخورنق [من أفخم قصوره] جعل لنفسه في كل سنة يومين (نعمه وبؤسه) فإذا خرج فأول من يطلع عليه في يوم نعمه يعطيه مائة من الإبل ويغنيه، وفى يوم بؤسه يقتله.

وكان سبب اتخاذه يوم البؤس من عامه أنه كان له (عمرو بن مسعود) و(خالد بن نضلة) نديمين يستلذ حديثهما. فبينما هو ذات يوم يشرب معهما، جرت على لسانه أبيات شعر. فقال: قولا على هذه العروض، فقالا، فساء الملك بعض قولهما، وقد سكر فقتلهما. فلما صحا دعا بهما فأخبر بشأنهما فاشتد ندمه وكثر أسفه عليهما، واتخذ يوم قتلهما يوم البؤس من عامه.

ثم إن النعمان خرج يوما في صيد، فهاجت ريح رعبت الناس وخلعت القلوب وانقطع من أصحابه وألجأه المبيت إلى رجل من طيء يقال له (عمرو بن الأخنس) فلم يأله إكراماً لما رأى من جماله وشارته وتضوع من طيب رائحته، ولم يعرفه، حتى إذا أصبح غشيته الخيل فارتاع الرجل فقال: لا ترع، أنا النعمان فأقدم علي أمولك. فتوانى الرجل وألحت عليه امرأته فخرج يريد النعمان فصادفه يوم بؤسه وقد ركب فأمر بذبحه، فقال له: أنا الطائي أبو مثواك ليلة الريح، وإنما جئت لوفاء موعدك. فأدناه النعمان ورحب به وقال: أوصني بكل أرب لك ووطر، غير أنه لابد من القتل. فقال له الطائي: ما لي حاجة ولا أرب دون نفسي، فهب لي نفسي. فقال: لابد من القتل، فقال الطائي: إن لي وصايا وديوناً وعندي ودائع لا يعلمها أحد غيري، فدعني حتى ألحق بأهلي وأوصيهم بما أريد وأرجع إليك، قال: فمن يكفل بك؟ فسأل الطائي عن أكرم الناس عليه، فقيل له: (شريك بن عمير)، وهو ابن عمه وصهره، فاهتز لذلك شريك ومضى إلى النعمان فكفل له به، فأجل له النعمان وضمنه شريكاً بدمه، فانطلق الطائي إلى أهله وأوصاهم وودعهم ولبس أكفانه وتحنط، وأقبل يريد النعمان.

ولما أصبح النعمان يوم أجل الطائي دعا شريك ليقتله فقال له: أيها الملك اجعل لي يومي هذا إلى انقضائه، ووطن شريك نفسه على القتل وودع أهله، فلم يلبثوا أن طلع عليهم الطائي في أكفانه متحنطاً، فاشتد تعجب النعمان منه وقال: ما أدري أيكما أكرم، فأخبرني يا طائي ما حملك على الوفاء وأنت تعلم أنك مقتول، قال: حملني على ذلك ديني، قال: وما دينك؟ قال: النصرانية، فوصف له الدين وتوحيد الله تعالى، فظهر له صحة ما وصف، وقبله بفطنته وتنصر، وقال: لا بؤس ولا يوم بؤس بعد هذا، ووصل الطائي وأحسن إليه.

وحكاية كسرى (أبرويز) مع (النعمان بن المنذر) من عجب العجاب، فإن والده (المنذر بن النعمان) احتضن جد كسرى أبرويز (بهرام بن يَزدَجِرد) فقام بتربيته ورعايته ولما مات أبوه (يَزدَجِرد) أراد عظماء المملكة حجب الملك عنه فجهز (المنذر) عشرة آلاف -وقيل ثلاثين ألف- فارس من فرسان العرب وذوي البأس والنجدة بقيادة ابنه (النعمان) ووجههم إلى (المدائن) مما جعل الفرس يذعنون للأمر ويتوجون (بهرام) ملكاً عليهم. فكان الجزاء أن قتل حفيده (أبرويز) (النعمان بن المنذر) وسلبه ملكه!!.

فإنه لما غضب كسرى من النعمان لأنه طلب الزواج من ابنته، أرسل إليه يطلبه فلم يستطع أي حي من أحياء العرب أن يحميه من كسرى، فاضطر النعمان أن يمتثل للأمر، فأودع أسلحته [وكان في جملة وديعته "ألف شكة ويقال أربعة آلاف شكة، والشكة السلاح] وحرمه إلى هانئ بن مسعود الشيباني، ورحل إلى كسرى فبطش به، حيث وضع في يده القيد وزج به في سجن من سجونه المظلمة حتى هلك، ويقال أنه قتله تحت أقدام الفيلة، وولي على الحيرة بدلا منه إياس بن قبيصة الطائي، ثم أرسل إلى هانئ يطلب منه ودائع النعمان فأبى، فسير إليه كسرى جيشاً لقتاله فجمع هانئ قومه آل بكر وخطب فيهم فقال: يا معشر بكر، هالك معذور، خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر قاتلوا فما للمنايا من بد.

وانتصر على الفرس في موقعة «ذي قار»، فهذا الرجل احتقر حياة الذل والاستكانة، ورأى الموت شرفاً في ساحة العز.

 د/ خالد سعد النجار