وسائل التواصل و(الوعي) المزيف

ما يميزُ العقدين الأخيرين سيطرةُ وسائلِ التّواصلِ الاجتماعي (social media site) على حياتنا، ودخولُها في تفاصيل علاقاتنا الإنسانية إلى حد يصعب الانفكاك منها، بل يكادُ يستحيل ذلك..

  • التصنيفات: قضايا الشباب - قضايا إسلامية معاصرة -
وسائل التواصل و(الوعي) المزيف

ما يميزُ العقدين الأخيرين سيطرةُ وسائلِ التّواصلِ الاجتماعي (social media site) على حياتنا، ودخولُها في تفاصيل علاقاتنا الإنسانية إلى حد يصعب الانفكاك منها، بل يكادُ يستحيل ذلك، ويكفي أن نعرف أنّ أكبر الشركات على مستوى العالم شركاتٌ تملك هذه الوسائل وتديرها لندرك مدى تأثيرها على المجتمع الإنساني.

 

وبات الحديثُ عن منافعِها ومضارِّها من نافلةِ القولِ لكثرةِ ما قيل في ذلك وحُبّر ودُبّج، ولكن هناك جانب سلبي يستحق الوقوفَ عليه مرارًا والحديثَ عنه جهارًا؛ ألا وهو دورُها الكبيرُ وأثرُها الخطير في صنعِ (وعي) -إن جاز التعبير- مزيّفٍ أو مشوّهٍ لا يكاد يسلم منه الخاصّة فضلًا عن العامّة، أو قل صنع جهلٍ مركّبٍ من خلال رفدِ معلوماتٍ مغلوطةٍ بأخواتها في الغلطِ تعززها؛ فيخيّل لصاحبها أنّ ما عنده بيتٌ مكين من المعارف، وما هو في الحقيقة إلا بيت عنكبوت واهٍ خالٍ من فضائل الخير أو العدل أو الجمال، لا يصمد أمام قشّةٍ من نقد منطقي.

 

فما إن يفتح المرءُ هاتفَه أو حاسوبَه حتى تنهالَ عليه صورٌ ومعلوماتٌ ومقتطفاتٌ من كل فنٍ ولونٍ، ولا يملك المرءُ الوقتَ لتفحّصِ وتمحيصِ كلّ ما يرِد إليه هذا إن كان يملكُ مهاراتِ النّقد والتّقييم، أمّا من غُبِنَ النّعمتين فتنثالُ عليه تلك المصائب غدوةً وروحةً: فتخالطُ تلك المعلوماتُ عقلَه وتخامرُ تلك الصورُ قلبَه، فيتشرّبُ ما في تلكم الرسائلِ من سمومٍ فكريةٍ، وربما غدا ناقلًا لها من غير تبيّنٍ أو رويةٍ يعدي بها غيرَه.

ولا تسلم من الوقوع في شَرَك هذا (الوعي) المزيّف كثير من الفئات أو المجموعات من خلالِ الاشتراك في المجموعات المغلقة من الأصدقاء أو الأهل أو العمل، فإذا قام أحد أعضائها بنشر ما يوافق هوى الجماعة ويعزز قناعاتها نُثِرَت عليه عباراتُ المديحِ والغزلِ الصّريحِ على سرعةِ بديهته واقتناصِه لفكرتِه وحسنِ طويتِه بإهدائها لأمتِه، وقد يكون الهوى العزّةُ بالإثم، والقناعةُ فكرةٌ مغلوطةٌ أو خاطئةٌ.

وقد تنبّهت كثيرٌ من الدول والمنظماتِ إلى خطر هذه الظاهرة وأثرِها؛ فقامت ببناءِ لجانٍ أو مؤسساتٍ متخصصة اُصطِلحَ على تسميتها بالذبابِ الإلكترونيّ تعمل على توجيهِ الرأي العام أو تغييرِه إلى فكرةٍ ما أو معتقدٍ أو رأيٍ يحقق أجنداتِها ومخططاتِها، والأنكى أن يتحولَ الفردُ المستهدَفُ من الذباب الإلكتروني من غرضٍ إلى وسيلةٍ؛ عندما تنطلي عليه تلك الحيل فيتبناها وينشرها.

وتأخذ مجموعات الذباب الإلكترونيّ بعضَ المطيّاتِ اللغويةِ لتمتطي عقل المتصفّحِ من مثل: هل تعلم أنّ.... أو تذكرُ بيتًا من الشعر أو حكمةً لا يُختلفُ فيها ثمّ توظّف في غير مكانها... أو يقوم بإثارة مشاعر الناس من خلال إثارة العصبيات والنفخ في أوارها من مثل: انظر ماذا يفعلون بـ...؟ أو تصطنعُ التعاطفَ مع قضايا إنسانية مع دس رسالته المسمومة معها، وغيرها.

وما أكثرَ ما ترى من مقاطع مرئية منزوعة من سياقها من خلال القطع والبتر ولو تتبعت بعضها لوجدتها منشورةً منذ سنوات ماضيات أحياها شخصٌ ما لغرضٍ ما!

وكم ترى من فتاوى ضعيفةٍ تجوب أصقاعَ الأرض فتزيغُ بها قلوبُ أناسٍ على حرفٍ، أو يبتهل بها متصيدون على ختلٍ من خلال مقطعٍ صغيرٍ لشيخٍ وافر الوقارِ واللحيةِ مغمورِ الحالِ والعلمِ!

وكم ترى من صورٍ تم التلاعب بها، ثمّ دوّنت تحتها معلومةٌ خاطئةٌ أو عبارةٌ تحريضيةٌ ضد فئةٍ أو جماعةٍ أو جملةٌ تثير العصبيات الدينية أو القبلية أو القومية، يتلقفها الدهماء يشعل بها ثائرة الغوغاء.

إذًا فما الحل وقد عمّ البلاء حتى لا يكاد يسلم منه لبيب حصيف؟!

الحل له عدة أدوات: منها العقلي، ومنها الأخلاقي، ومنها العملي، ومنها الإيماني.

الأول هو العقل، فعلى العاقل أن ينتفع بهذه الهبة العظيمة التي كانت سبب كرامة الإنسان كما ذكر الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، والعقل لا يُدرَك ولا ينفَع إلا من خلال عمله، وعملُه (التفكير)، وأفعال العقل ووظائفه هي: التفكير المنطقي الناقد، والتفكير الإبداعي، والتحليل والتركيب والاستدلال والاستنباط، والتأمل، والتدبر، والقياس، والاستقراء، والقدرة على حل المشكلات، ولعل من اللطائف العجيبة في القرآنِ الكريمِ أنّ كلمة (العقل) لم تردْ فيه بصيغة الاسم مطلقًا، بل جاءت (49 مرةً) بصيغة الفعل (تعقلون، عقلوه، نعقلها) في تأكيد ربانيّ لأهمية تفعيل العقل، فتبيّنوا.

 

أما الثاني هو أن يستشعر المرء أنه مسؤول أخلاقيًا عمّا يقولُ أو يفعلُ أو يكتبُ أو يرسلُ أو يعجَبُ به أو يغضبُ منه، وأنه مسؤولٌ عن مجتمعه لينشر فيه الخير ويمنع عنه الشرّ، فيزرع ما ينفع، ويقلع ما يضر ويؤذي.

 

والثالث: الفلترة، ولنقرأ معًا قصّة سقراط مع واشٍ، تقول القصّة: " في أحد الأيام صادف الفيلسوف اليوناني سقراطُ أحدَ معارفه الذي أسرع نحوه متلهفًا: سقراط، أتعلمُ ما سمعت عن تلميذك فلان؟! فردّ عليه سقراط: " انتظرْ لحظةً قبل أن تخبرني أودّ منك أن تجتازَ امتحانًا صغيرًا يدعى امتحانَ الفلترِ الثلاثي. فقال الرجل مستغربًا: الفلترُ الثلاثي؟ تابع سقراط: نعم، لنفلترْ ما تودّ أن تخبرني به؛ الفلتر الأول: فلترُ الصّدق: هل أنت متأكدٌ أنّ ما ستخبرني به صحيحٌ؟ ردّ الرجل: لا، في الواقع لقد سمعت الخبرَ من أحدهم. قال سقراط: إذًا أنت لست متأكدًا من صدق الخبر، لنجربْ الفلترَ الثاني، فلترَ الطّيبة: هل ما ستخبرني به عن تلميذي شيءٌ طيّب؟ فقال الرجل: لا، بل هو على العكسِ تمامًا. تابع سقراط: حسنًا إذا ستخبرني بشيء سيء عن تلميذي على الرغم من أنك غيرُ متأكّدٍ من صحته؟! تابع سقراطُ: ما زال بإمكانك أن تنجح في الامتحان، فهناك فلترٌ ثالثٌ، فلترُ الفائدة: هل ما ستخبرني به عن تلميذي سيفيدني؟ فقال الرجل: في الواقعِ لا. تابع سقراط: إذا كنت ستخبرني بشيء ليس بصحيحٍ، ولا بطيّبٍ، ولا ذي فائدةٍ، فلمَ تخبرني به؟ فبُهت الواشي وأُسقِط في يده.

وعلى الإنسان ألا يكتفي بفلترةِ ما يرد عليه من أخبار بل يجب أن يقوم بين الفينة والأخرى بفلترة مصادر تلك الأخبار أمثال الواشي الذي نمّ لسقراط.

وأخيرًا على الإنسان المؤمن – خاصةً - أن يستحضر أنه محاسب أمام الله تعالى عن أعمالِه كلِّها: صغيرِها وكبيرِها، ذليلِها وجليلِها، وحسبُه قوله تعالى في كتابِه العزيز: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولࣰا} [الإسراء: ٣٦].
_______________________________________________________
الكاتب: محمود سعيد عيسى