صلاح الدين الأيوبي والفن الحربي العربي

شكلت الحملات الصليبية المتتالية، على الشام وفلسطين ومصر، الحدث التاريخي الأبرز، وعامل التحدي الأكبر، في وجه القضية العربية، طيلة قرون عدة.

  • التصنيفات: التاريخ والقصص - التاريخ الإسلامي -
صلاح الدين الأيوبي والفن الحربي العربي
شكلت الحملات الصليبية المتتالية، على الشام وفلسطين ومصر، الحدث التاريخي الأبرز، وعامل التحدي الأكبر، في وجه القضية العربية، طيلة قرون عدة. وإذا كانت الأطماع المادية والسياسية والدينية، قد حرّكت الملوك والأمراء ورجال الدين والجماهير الأوروبية، للزحف باتجاه الشرق، تباعاً، وبشكل موجات بشرية ضخمة في أولى الحملات، فإن الساحة الاسلامية في المقابل، كانت مشتتة ضعيفة، تتنازعها الدويلات الإسلامية المتنافسة، التي ورثت الدولة العباسية لحظة تفككها.

ففي بغداد، تواصلت الخلافة العباسية، من خلال رجال ضعاف، لا يتمتعون بأية سلطة حقيقية، واستمر تواترهم حتى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي. وفي مصر والشام وشمالي أفريقيا، حكمت السلالة الفاطمية حتى الربع الأخير من القرن الثاني عشر الميلادي، أما السلاجقة العظام وسلاجقة الشام وسلاجة الروم، فقد امتد نفوذهم على الرقعة التي تضم العراق وفارس والشام وآسيا الصغرى، وتراوحت مدة سيطرتهم فيما بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، بينما تمكن الدانشمنديون والزنكيون والأراتقة، من تأسيس دول لهم، في الأناضول والأراضي التركية والشام. ودام حكم الأراتقة في بلاد الأناضول، حتى أوائل القرن الخامس عشر الميلادي. وكان الطابع الغالب والعامل المشترك بين معظم هذه الدويلات، هو سيطرة الأثنية التركية عليها[1].

وكان لابد لمواجهة التحدي الصليبي الخطير، من توليد نقيضه الإسلامي، وأخذت قضية توحيد الساحة الإسلامية، وإنشاء جيشها القوي، تبرزان بإلحاح، وباتت المشاعر الوحدوية تشغل كل الناس. وقد أدرك كل من ((عماد الدين زنكي)) و((نور الدين محمود)) وصلاح الدين الأيوبي، هذه التطلعات الشعبية، وحققوا قدراً كبيراً منها.
 
لقد تمكن ((نور الدين محمود))، ابن ((عماد الدين زنكي))، بفضل نضاله الدؤوب وسياسته الحكيمة، من توحيد حلب ودمشق والموصل، بوجه الخطر الصليبي الذي كان قد ركّز قاعدة ثابتة له في بيت المقدس، بالإضافة إلى عدد آخر من المواقع الحصينة التي استولى عليها أو أنشأها على طول الساحل الممتد بين شمالي لبنان وجنوبي فلسطين. وقد اتبع ((نور الدين محمود)) عمليات قضم وهضم، أدت في النهاية، إلى تخليص عدد من المواقع العربية من براثن الصليبيين. كما نجح، قبل وفاته، في إنقاذ مصر من قبضة الفاطميين، الذين كانوا يرضخون، هم وسلاجقة الشام، للنفوذ الصليبي في بيت المقدس.

صلاح الدين يبني دولته:
تمكن ((أسد الدين شيركوه))، عم صلاح الدين من فتح مصر أخيراً في العام 1169م، بعد محاولتين سابقتين، ولكنه لم يلبث أن توفي بعد شهرين من الفتح، فتولى صلاح الدين القيادة مكانه، بفضل الإجماع الذي أمّنه له مستشاره الخاص ورجل المهمات الصعبة، الفقيه ((عيسى الهكاري))، في وجه أخواله وأقاربه الذين كانوا يطمعون بالسلطة[2]. ولم يلبث الخليفة الفاطمي ((العاضد)) أن توفي في العام 1171م، وانتهت بوفاته السلالة الفاطمية، وانتقلت مقاليد الحكم في مصر، بكاملها، إلى صلاح الدين الأيوبي.

كان على صلاح الدين أن يعمل على جبهتين في نفس الوقت: البناء وتركيز أوضاع الدولة في الداخل، وقتال الصليبيين وإبقاء التماس مفتوحاً معهم، في الخارج. وهكذا، وفي نفس العام الذي تولى السلطة فيه، قام صلاح الدين بهدم سجن في مصر، وبنى مكانه مدرسة للشافعية، وعزل القضاة الفاطميين، وعيّن مكانهم قضاة شافعيين في جميع البلاد[3]. وفي العام نفسه أيضاً، أغار صلاح الدين على الفرنج في عسقلان والرملة، وهجم على ربض غزة فنهبه، وقاتل ملك الفرنج وكاد أن يأسره، ثم عاد إلى مصر، وبنى ((مراكب مفصّلة، نقلها على الجمال، ثم جمعها وانطلق بها لحصار ((أيلة)) براً وبحراً، ففتحها ثم عاد إلى مصر))[4].

كانت عملية بناء الدولة في الداخل، بما فيها من حسم للخلافات والصراعات، وتأمين لكافة الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للناس، تسير بشكل متلازم مع تطوير القدرات العسكرية، وشنّ هجمات متتالية على العدو المجاور، حتى لا يتمكن من الاستقرار والراحة.
 
وقد رضخ صلاح الدين، في البداية، لسلطة نور الدين محمود المركزية في حلب، وقام بتطبيق الإصلاحات الإدارية والسياسية التي أمره بها[5]، إلا أنه لم يلبث أن أخذ يستقل بأمور مصر، وبدأ خلاف خفي ينشأ بينه وبين نور الدين، يعززه خوفه من احتمال قيام نور الدين بعزله. وقد ضيّع هذا الخوف عدة فرص على المسلمين، حيث كان يفترض في صلاح الدين موافاة نور الدين إلى المملكة الصليبية وإحكام الطوق عليها من الشمال والجنوب، وكان نجاح هذه العملية مضموناً، في ذلك الوقت، بسبب ضعف الصليبيين وتفككهم، وبفضل الحشد الكبير الذي كان باستطاعة القائدين تأمينه من مصر والشام والعراق. ولكن صلاح الدين، الذي كان يتحاشى اللقاء لاستبعاد المواجهة مع نور الدين، كان يعود عن حصار الكرك والشوبك وغيرها، قبل وصول نور الدين إليها بوقت قصير، ويسير إلى مصر محتجاً بخوفه من غدر المصريين به حيناً، أو بمرض والده حيناً آخر[6] مما أضاع على المسلمين فرصاً استراتيجية هامة.

وبوفاة نور الدين محمود في العام 1174م، لم يبق، في الساحة العربية، منافس لصلاح الدين، يوازيه في الأهمية، وبرزت عندها أمامه مشكلتان استراتيجيتان أساسيتان، الأولى: لملمة أطراف الدولة من مصر إلى اليمن ومكة وليبيا والسودان، إلى الشام والعراق وبلاد الأناضول؛ والثانية كانت تتلخص بضرورة القضاء على المملكة الصليبية، وما يعنيه هذا من استعداد وتأهيل ذاتي.

الاستراتيجية العليا لدى صلاح الدين:
كان صلاح الدين واحداً من القادة الأفذاذ في عصره، الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، وقد أظهر هؤلاء صفات قيادية لم تكن من قبل، ولعبوا أدواراً تاريخية هامة في عملية التطوير والتحديث. وتقارنه المراجع الغربية المختصة بالسلطان ((محمود الغزنوي)) و((ريتشارد قلب الأسد)) و((ألكسيوس)) ملك بيزنطة، و((ألب أرسلان)) السلجوقي، و((روبير جيسكارد)) الصقلي النورماني[7]. ولا يمكننا بالطبع إغفال نور الدين محمود صاحب أهم المشاريع الوحدوية في عصره.
كان الهمّ الاستراتيجي الأول الذي يشغل فكر صلاح الدين هو إحكام قبضته على مصر، البلد الكبير الوافر الإمكانيات البشرية والاقتصادية، الذي يمنحه قاعدة قوية وأمينة، تدعّم موقفه في وجه الصليبيين، وتعطيه حرية الحركة في مواجهتهم، وتحميه من خطر الإقالة على يد قائده وصديقه نور الدين محمود.
 
وكان توجهه الثاني هو مقاتلة الصليبيين، وانتزاع بيت المقدس من أيديهم، والقضاء على دولتهم الهجين، التي تتوسط البلاد العربية، وتهدد طرق مواصلاتها.
أما شاغله الثالث، فقد كان توحيد البلاد التي تركها نور الدين محمود تحت رايته، وتوسيع رقعة الدولة العربية حتى تمتد من اليمن في الجنوب إلى بلاد الأناضول في الشمال، ومن المغرب إلى الموصل في الشرق.

وكان لابد لصلاح الدين من تسخير كافة الإمكانيات والطاقات البشرية والمادية والعسكرية لتحقيق هذه الأغراض. وقام بتنفيذ سياسة داخلية قوامها الإصلاح الإداري، وبناء دفاعات داخلية وساحلية قوية، لمواجهة أي احتمال طارئ، وشجع الصناعات الحربية، وأعاد بناء سور الاسكندرية[8]، وأمر بإعادة بناء سور القاهرة، وببناء قلعة فيها شبيهة بقلاع الفرنج[9].
 
كما اهتم بتحصين الثغور البحرية في الاسكندرية وفي دمياط، التي كانت تحتوي على حوض لبناء السفن، فأمر بشد السلاسل في دمياط بين برجين من الحجر، تسد المرفأ في وجه السفن الغازية، ووزع المقاتلين على البرجين لتأمين الحماية لهما. وفي الاسكندرية، التي كانت، هي الأخرى، تضم حوضاً لبناء السفن، أمر صلاح الدين باتخاذ إجراءات دفاعية فعالة، وكلفته التحصينات الساحلية التي أقامها في دمياط والاسكندرية، مئات الآلاف من الدنانير.
وفي نفس الوقت الذي كان يواصل فيه صلاح الدين هجماته وإغاراته على حصون الصليبيين وقلاعهم، قام بإرسال حملات أخرى لفتح طرابلس الغرب وأخرى لفتح اليمن وثالثة لفتح السودان، وذلك ضمن سياسة تمتين الصف الداخلي وتوسيع قاعدته الدفاعية والاستراتيجية في العمق.

فن العمليات لدى صلاح الدين الأيوبي:
برز صلاح الدين الأيوبي على المستوى الاستراتيجي العسكري كواحد من أكبر القادة المسلمين، وتخطت شهرته البلاد الإسلامية كما سبق وذكرنا بفضل قدراته القيادية والتنظيمية.
ولا تكاد سنة من السنوات تخلو من العمليات، التي كان يقوم بها، إمّا في الداخل لحفظ الأمن ولتوسيع رقعة سلطانه، وإما في الخارج العربي لضم الأجزاء العربية المتناثرة، أو في عمليات المناوشة والتحرش، والقضم والهضم التي كان يتوجه بها نحو الدولة الصليبية في فلسطين.
وكانت لديه المقدرة القيادية الكافية في تحديد الفكرة الأساسية للعملية المعينة، وكان ناجحاً في التخطيط الميداني لكيفية استخدام القوى والوسائط وانتقاء الأساليب والأشكال المرتبطة بحجم القوى الصديقة والقوى المعادية، ومسرح العمليات، والزمان والمكان، ومحددات العمل ومقومات نجاحه، كما برع في تنظيم التعاون العملياتي للقوى المشتركة في المعركة.

وقد أخذ صلاح الدين يشن حملات متتالية، إلى حمص وحلب في العام 1174م، وإلى الموصل في العام 1176م، ثم إلى تل الجزر عام 1177م، حيث واجه الهزيمة ونجا بنفسه بعد حصار الصليبيين له. وفي ربيع العام 1179م أرسل صلاح الدين ابن أخيه ((فروخشاه)) في إغارة على بانياس كادت تقضي على ((بلدوين الرابع)) ملك بيت المقدس، لولا أن افتداه ((همفري)) سيد تبنين بحياته. وقد أسفرت المراحل المتقدمة من هذه المعركة، والتي جرت في حزيران (يونيو) 1179م، عن هزيمة منكرة للصليبيين، أدت إلى أسْر عدد كبير من قادتهم من بينهم ((أودسانت أمان)) مقدم فرسان الداوية، و((بلدوين)) سيد يبنه، و((هيو)) سيد الجليل[10].

وفي العام 1180م، طلب ((بلدوين الرابع)) من صلاح الدين عقد هدنة، على أثر قيام الأسطول المصري بغارة ناجحة على السفن الراسية في ميناء عكا، وبعد إغارة برية أخرى على الجليل في مطلع ذلك العام. وقد وافق صلاح الدين على هذه الهدنة التي لم تعمر أكثر من عام واحد، بسبب قيام ((رينو دو شاتيون)) سيد إقليم ما وراء الأردن، وقتذاك، بنقضها. فقد شنّ ((رينو)) في صيف العام 1181م، غارة على قافلة تجارية في واحة تيماء، أثناء مسيرها إلى مكة، مما أدى إلى خرق الهدنة المتفق عليها وجرّ ذيولاً لم تكن في صالح الصليبيين[11].

وقد تتابعت المعارك بين العرب والصليبيين على هذا المنوال، وبقي خط التماس مفتوحاً بين الفريقين، يستفيد منه الطرف الأقوى، والذي يتمتع بالقدرة على حشد أضخم، وحركية أكبر. وكانت الغلبة، على وجه العموم، للمسلمين الذين استفادوا من توحيد قواهم تحت قيادة صلاح الدين الأيوبي، وأحسنوا تنسيق التعاون العملياتي بين القوى المختلفة، القادمة من مصر أو من الشام أو الموصل وغيرها.
ولقد كانت معركة حطين (1187م)، نموذجاً حياً لمقدرة صلاح الدين القيادية، ولتمكنه من تنظيم التعاون العملياتي للقوى المختلفة التي شاركت في المعركة، والتي قدمت من ديار بكر وحلب ودمشق وحمص والموصل وماردين[12]. وقد أحسن صلاح الدين اختيار زمان المعركة في أيام الحر الشديد، ومكان نشر قواته حيث تمتع جيشه بالقرب من مياه بحيرة طبرية، مما جعله يتلافى مشكلة خطيرة في وقت اشتد فيه القيظ. هذا بالإضافة إلى غزارة الرمي التي مارسها نبّالته، فلقد قام بعض جنوده بإشعال النار في الهشيم، مما زاد في الحر ونشر الدخان الكثيف. وقد أدت جميع هذه الأمور إلى حسم المعركة بشكل سريع، وتم لصلاح الدين أسر معظم قادة الصليبيين، وكان على رأسهم ((غي لوزينيان)) ملك بيت المقدس الجديد، وشقيقه ((أمالريك))، و((رينو دو شاتيون))، وغيرهم[13]. وقد أسفرت معركة حطين عن نتائج ذات طابع استراتيجي، حيث أخذت المواقع الصليبية تنهار الواحد تلو الآخر، تحت الضربات العربية، إلى أن سقطت بيت المقدس في 2/10/1187م، وهرب من تبقى من الصليبيين إلى صور وطرابلس اللتين استمرتا بالمقاومة لفترة أخرى من الزمن[14].
وبسقوط بيت المقدس، حقق صلاح الدين للعرب وللمسلمين نصراً استراتيجياً كبيراً، لما تعنيه هذه المدينة لهم من أهمية قدسية ومكانة معنوية.

التنظيم والتسليح والتكتيك لدى صلاح الدين الأيوبي:
عني صلاح الدين الأيوبي، على المستوى التكتيكي، ببناء جيشه، وبتحضير القوات المختلفة تنظيمياً، بما يتلاءم مع توجهه الاستراتيجي العام، وقد اهتم بتحويل معظم قواته إلى وحدات خيالة، لما تفرضه طبيعة المعارك، على مسارح عمليات واسعة، من ضرورة لخوض معركة الحركة والمناورة على خطوط مواصلات خارجية غالباً، ومعرضة للمخاطر. كما اهتم بالنبالة وكانت تسمى أيضاً ((الجالشيّة))، فأكثر من تدريبها، وزاد من إمدادها بالنبال، مما كان يعطي القوات العربية غزارة رمي مشهوداً لها.

ومن ناحية أخرى اشتهر السيف الدمشقي، أو السيف الأحدب، الذي يطلق عليه الغربيون اسم ((Scimitar  ))[15]، وكان هذا السيف يمتاز، إلى جانب سيف طليطلة، بالشفرة المعدنية الحادة المصقولة مرة واحدة. وقد أورد ((مرضي الطرسوسي)) في مخطوطه المسمى ((تبصرة الألباب في كيفية النجاة من الحروب ومن الأسواء ونشر أعلام في العدد والآلات المعينة على لقاء الأعداء))[16]، معلومات مفصلة عن كيفية صناعة السيوف الحادة، والمعادن المستعملة، ونسب مزجها الخ... بالإضافة إلى معلومات مفصلة أخرى عن كيفية صنع عدد آخر من الأسلحة كالدروع والرماح والأقواس والمجانيق وغيرها، مما يدل على ازدهار الصناعة الحربية في زمن صلاح الدين الذي عاصره ((الطرسوسي)).
 
ومن ناحية أخرى، كان الفارس العربي يمتاز بخفة الحركة، وفعالية سلاحه، سيفاً أم قوساً، أو رمحاً، بينما كان الفرسان الصليبيون يثقلون كواهلهم بالدروع التي تغطي أجسادهم ومتون خيلهم، مما يزيد في وزنهم ويقلل من حرية الحركة لديهم.

وقد اشتهرت المجانيق العربية التي كانت ترمي الحصون، وبغزارة عالية، بالحجارة أو الحديد أو النفط المشتعل، ويروي ((ابن الأثير)) كيف صنع الصليبيون ثلاثة أبراج خشبية عالية جداً، وغطوها بالجلود والخل والطين والمواد التي تمنع النار من إحراقها، وأصلحوا الطرق لها، ودفعوها إلى عكا لحصارها في العام 1190م، مما اضطر أهالي عكا إلى الاستنجاد بأحد العلماء الدمشقيين الذي كان يسكن وقتها فيها، وكان قد اخترع مادة حارقة لا تنطفئ، وقد تم بفضل التطوير العلمي، الذي قدمه هذا العالم، التخلص من ازعاج الأبراج الثلاثة وإحراقها بعدما كانت قد بدأت بتهديد عكا بالسقوط[17].

وعلى صعيد آخر، فلقد كان الترتيب القتالي الذي استعمله صلاح الدين الأيوبي، ومعاصروه من القادة المسلمين، يعتمد على التنظيم الكلاسيكي العربي القديم، بشكل أساسي، أي قلب وجناحين، وميمنة وميسرة، وجالشية (نبالة) وساقة[18]. ولكن الفارق الجديد كان في قيام مجموعة القلب بمناورة تقدّم ثم تقهقر، لاستدراج العدو إلى الطوق الذي سرعان ما يتشكل ويتم الإطباق. هذا بالإضافة إلى تشكيلات وترتيبات قتالية أخرى عرفها العرب في زمن صلاح الدين، وكانت تشبه الأشكال الهندسية المختلفة، كالمستطيل، والزاوية الحادة والمعيّن والدائرة[19].
أما سرعة الاتصالات لنقل الأخبار والتعليمات القيادية والمعلومات الاستطلاعية، فكان يؤمنها الحمام الزاجل الذي اهتم صلاح الدين، ومن قبله نور الدين، باستخدامه.

وهكذا فرضت طبيعة المرحلة التاريخية والسياسية والاجتماعية، على المجتمع العربي في زمن صلاح الدين الأيوبي، اتباع استراتيجية مناهضة للاحتلال الصليبي، وَحْدويَّة الإطار الداخلي، وإصلاحية على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، كما فرضت على القوات المسلحة العربية اتباع فن عمليات وتكتيك قتالي مميزين، مما يشكل استجابة ضرورية لاحتياجات المرحلة العسكرية.
 
ـــــــــــــــــــــ
[1]  ستيفن رنسيمان ، تاريخ الحروب الصليبية ، ج2 ، ترجمة السيد الباز العريني (بيروت : دار الثقافة ، 1968) ، ص843- 850 . 
[2]  ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ، ج11 (بيروت : دار صادر ، 1980) ، ص341 . 
[3]  المصدر نفسه ، ص366 . 
[4]  المصدر نفسه ، ص365 .
[5]  يذكر ((أبو شامة)) عن لسان أبي طي ، قيام صلاح الدين بإلغاء الضرائب والمكوس عن الصناعة ، مما وفر على الخزينة ملايين الدنانير ، وذلك بناء على تعليمات نور الدين محمود . أنظر : أبو شامة ، كتاب الروضتين في أخبار الدولتين : النورية والصلاحية ، ج1 (القاهرة : د. ن.، 1870) ، ص174 .
[6]  المصدر نفسه ، ص206- 207 .
[7]  R. Ernest Dupuy and Trevor N. Dupuy, The Encyclopedia of Military History (London: Macdonald & Jane's, 1974), p.278.
[8]  أبو شامة ، مصدر سابق ، ص191 .
[9]  المصدر نفسه ، ص192 .
[10]  ستيفن رنسيمان ، مصدر سابق ، ص656- 678 . 
[11]  المصدر نفسه ، ص679- 697 .
[12]  أبو شامة ، مصدر سابق ، ج2 ، ص75- 76 .
[13]  المصدر نفسه . 
[14]  Joseph François Michaud, History of The Crusades (New York: Armstrong, 1895), pp. 485- 505.
[15]  Dupuy, op. cit., p. 279.
[16]  Bulletin d'Etudes Orientales, Tome XII, p. 106.
[17]  ابن الأثير ، مصدر سابق ، ج12 ، ص45- 47 . 
[18]  المصدر نفسه ، ج11 ، ص531 .
[19]  جرجي زيدان ، تاريخ التمدن الإسلامي ، ج1 ، مراجعة حسين مؤنس (د. م: د. ن: د. ت) ، ص207 .
__________________________________________

الكاتب: مروان سعد

المصدر: مجلة الفكر الإستراتيجي العربي، العدد 2، ص253- 260