طلب الولايات

حب الشَّرف وطلب الشَّخص من الخَلْق أن يعرفوا قدْرَه وقيمته وينزلوه منزلته - لا تزال بالشَّخص حتَّى ينازع ربَّه في ربوبيَّت

  • التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها -

معاشر الإخوة:
البحث عن الشَّرف - وهو طلب الشَّخص أن يكون رأسًا مقدَّمًا، يتصدَّر المجالس، ويكون له ذكر عند الناس، يأتي النَّاس إليه راغبين أو راهبين لقضاء حوائجهم - طلب هذه الرِّفْعة الدنيويَّة من أعْظَمِ ما يَدْخُل بها النقْص على دين المسلِم، فمع عظم فتنة المال؛ فالبحث عن العلوِّ والرِّفْعة الدنيويَّة أعظم فتنةً من فتنة المال؛ فلذا يدفع المتطلِّع للرِّفْعة المال في تحصيلها، وقد أخبر النَّبي أنَّ إفْسادها لدين المسلِم تُضاهي إفْساد الذِّئْب الجائع في قطيعِ الغنَم، فما لَم يأكُلْه الذِّئْب يفسده، وهكذا طلَب الشَّرف والرِّفْعة في الدنيا؛ فعن كعب بن مالك الأنصاري قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «ما ذِئْبان جائعان أُرْسِلا في غنمٍ بِأَفْسد لها من حِرْص المرْء على المال والشَّرف لدينه» رواه التِّرْمذي (2376) وغيرُه بإسناد صحيح.

حب الشَّرف وطلب الشَّخص من الخَلْق أن يعرفوا قدْرَه وقيمته وينزلوه منزلته - لا تزال بالشَّخص حتَّى ينازع ربَّه في ربوبيَّته؛ قال ابن رجب في شرح حديث ((ما ذئبان جائعان)) (ص: 39): "حبُّ الشَّرف بالحرص على نفوذ الأمر والنَّهي وتدبير أمر النَّاس، إذا قصَدَ بذلك مجرَّد علوِّ المنزلة على الخَلْق والتعاظم عليْهِم، وإظهار صاحب الشَّرف حاجة النَّاس، وافتقارهم إليْه، وذلّهم له في طلب حوائجِهم منه - فهذا نفسه مزاحَمة لربوبيَّة الله وإلهيَّته، وربَّما تسبَّب بعض هؤلاء إلى إيقاع الناس في أمرٍ يَحتاجون فيه إليْه؛ ليضطرَّهم بذلك إلى رفع حاجاتِهم إليْه وظهور افتِقارهم واحتياجهم إليه، ويتعاظم بذلك، ويتكبَّر به، وهذا لا يصلح إلاَّ لله وحدَه لا شريك له؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: ٤٢]، فهذه الأمور أصْعب وأخطر من مجرَّد الظُّلم، وأدْهى وأمرُّ من الشِّرْك، والشِّرْك أعظم الظُّلْم عند الله".اهـ.

ولا تظنُّوا أيُّها السَّامعون، أنَّ هذا خاص بأصحاب الولايات الكبيرة، بل هذا قد يحصُل من صغار الموظَّفين، فلا يزال الموظَّف يبحث عن العراقيل، ويردد المراجع ويكثر من الطَّلبات التعجيزيَّة؛ ليشعر المراجع بقدْرِه وأنَّه يستطيع أن يلحق الضَّرر به، وأنَّه لا بدَّ من شفاعة الشَّافعين حتَّى يقوم بإنهاء المعاملة.

ليتأمَّل من يبحث عن الشَّرف في تولِّي المناصب في العاقبة، فالرِّياسة لا تدوم للرئيس، ولو دامت لم تصل إلى مَنْ بعدَه، فهو لن يبْقَى في هذه الولاية، فإمَّا أن يُعْزَل عنْها، وإمَّا أن يُحال للتَّقاعُد، فيفقد ما كانت نفسه تأنس به وتترفَّع على الناس بسببه، فيدخل عليه الهم والغم من هذا الباب، ويؤثر العزلة لما يرى من فرَح أعدائِه بذلك، فيسمع ما يسوءه؛ بل يجد الجفاء من أناس كانوا يتقرَّبون له، ويبشُّون في وجهه، ويكيلون له المديح لأجل ولايتِه، بل ربَّما أظهروا له الشماتة.

المتشوِّف الباحث عن الشَّرف في الولايات الدنيويَّة في عذاب معنوي في الدنيا، كيف يحصل على هذه الولاية فيذلُّ نفسَه لِمَن بيدِه الأمر من البشَر، ثمَّ إذا حصل عليْها فهو في شقاء وبؤْس؛ بسبب تبعيات هذه الولاية وما الطَّريق إلى البقاء في هذه الولاية، وعدم فقدِها، أو التطلُّع إلى ولاية أكبر منْها، ثمَّ هو في عناء بعد فقْدِها في الدنيا، ثمَّ أشدُّ ذلك العذاب الحقيقي في الآخرة إذا كان أخلَّ بهذه الولاية ولم يتَّق الله فيها، إذا لم يتدارَكْه الله برحمته.

وقد أشار النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إلى سوء عاقبة الحِرْص على تولِّي الولايات لأجل الوجاهة والرِّفعة؛ فعن أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: «إنَّكم سَتَحْرِصُونَ على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئستِ الفاطمة» (رواه البخاري (7148).


مَن حرص على الولاية وسعى في طلبِها قلَّما يوفَّق للعدل فيها؛ فعن عبدالرَّحمن بن سمُرة قال: قال النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «يا عبدالرحمن بن سمُرة، لا تسأل الإمارة فإنَّك إن أوتيتَها عن مسألة وكلْتَ إليْها، وإن أوتِيتَها من غير مسألة أُعِنْتَ عليْها»  (رواه البخاري (6622) ومسلم (1652).

معاشر الإخوة:
الكلام السَّابق يتناول من بحث عن الولاية لأجْل الوجاهة في الدنيا والتَّرفُّع على النَّاس، وليس المراد التَّزهيد في الولاية عمومًا، فالمسلمون لا بدَّ لهم من أحدٍ يقوم بولاياتِهم ويرعى مصالحَهم، فمَن تولَّى الولايات بنيَّة خدمة المسلمين والقيام بمصالِحِهم، واتَّقى الله في عملِه قدْرَ وسْعِه - فهُو على خير، وعمله عبادة وقربة، حتَّى لو كانت هذه الولاية لا تخلو من محاذير شرعيَّة لا يستطيع المتولِّي دفعَها؛ فقد سُئِل شيخ الإسْلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (ج 30/ ص 356 - 357) عن رجل متولٍّ ولايات، وهو يختار أن يسقط الظُّلْم كلَّه، ويَجتهد في ذلك بحسب ما قدَر عليْه، وهو يعلم أنَّه إن ترك ذلك، وولي غيرُه، فإنَّ الظُّلْم لا يترك منه شيءٌ بل ربَّما يزْداد، وهو يمكنه أن يخفِّف تلك المكوس التي في إقْطاعه فيسقط النصف، فهل يجوز لمثل هذا بقاؤُه على ولايته، وقد عرفت نيَّته واجتهاده وما رفعه من الظُّلْم بحسب إمكانِه، أم عليْه أن يرفع يده عن هذه الولاية؟

فأجاب: "الحمد لله، نعم، إذا كان مجتهِدًا في العدل ورفْع الظلم بحسب إمكانه، وولايته خير وأصلَحُ للمسلمين من ولاية غيره، فإنَّه يجوز له البقاء على الولاية، ولا إثْمَ عليْه في ذلك؛ بل بقاؤُه على ذلك أفضل من ترْكِه، إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه، وقد يكون ذلك عليه واجبًا إذا لم يقم به غيرُه قادرًا عليه، فنشر العدْل بحسب الإمكان، ورفْع الظلم بحسب الإمكان - فرضٌ على الكفاية، يقوم كلُّ إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيرُه في ذلك مقامَه، ولا يطالب - والحالة هذه - بِما يعجز عنه من رفْع الظلم... إلى آخر كلامه - رحمه الله -.

عباد الله:
طلب العلو والرفعة ليس في الأمور الدنيويَّة فقط، بل يكون في الأمور الأخرويَّة، فحينما تتشوَّف النَّفس إلى ثناء النَّاس ليكون لها المنزلة العالية عندهم، ويوصف الشَّخص بالعابد الصَّالح فيصدر في المجالس ويُطلب منه الدُّعاء، فطلب هذا الشرف يدْعو صاحبه لتحسين الأعْمال الصَّالحة أمام الناس وإظهارها، فيظهر من هذه حاله الورع والتنسك والزهد أمام النَّاس لينال هذا الشَّرف، وكذلك العِلْم قد يكون مطيَّة عند البعض في تَحصيل منفعة عاجلةٍ وتعقبه حسراتٌ في الآخرة؛ فعن جابر بن عبدالله: أنَّ النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: «لا تعلَّموا العلم لتباهُوا به العلماء، ولا لتمارُوا به السُّفهاء، ولا تخَيَّروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنَّار النَّار»  (رواه ابن ماجه (254) وصحَّحه الألباني).

فكما أنَّ حبَّ الشَّرف في الولايات الدنيويَّة يُوقع في شرك الربوبيَّة، فكذلك حب الشَّرف في الأمور الأخرويَّة يوقع في الشِّرك الأصغر، ويُحبط الأعمال؛ فعن محمود بن لبيد قال: خرج النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقال: «أيُّها الناس، إيَّاكم وشركَ السَّرائر»، قالوا: يا رسولَ الله، وما شِرْك السَّرائر؟ قال: «يقوم الرَّجُل فيصلي فيزين صلاتَه جاهدًا؛ لما يرى من نظَر النَّاس إليه، فذلك شرك السرائر» رواه ابن خزيمة (937) وله شاهد من حديث أبي سعيد عند ابن ماجه (4204).

طلب الشَّرف الدُّنيوي بأمور الآخِرة أشدُّ من غيره؛ فلذا كان من أوَّل مَن تسعَّر بهم النَّار يوم القيامة ثلاثة، طلبوا العلوَّ والرِّفعة فيما يبتغى به وجه الله، وهُم رجلٌ قاتَل ليقال: جريء، ورجلٌ تعلَّم العلم ليُقال: عالم، ورجُل أنفق في سبيل الخير ليُقال جواد.

عباد الله:
مَن طلَب المنزلة الأخرويَّة وأقبل على ربِّه يلتمس رضاه في كل أحْوالِه، لا يلتفِت إلى مدْح المخلوقين، فتجده يجتهد في أن تكون أعمالُه سرًّا بينه وبين ربِّه، لا يطَّلع عليها غيره، يجعل الله له المنزلة الرفيعة والقدْر بين النَّاس، وإن كان لا يبحث عن ذلك بل يكرهه؛ فعن أبي هُرَيْرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريل فقال: إنِّي أحبُّ فلانًا فأحبّه، قال: فيحبُّه جبريل، ثمَّ ينادي في السَّماء فيقول: إنَّ الله يحب فلانًا فأحبُّوه فيحبُّه أهل السماء، قال: ثمَّ يوضع له القبول في الأرض» (رواه البخاري (7485) ومسلم (2637).

فثناء النَّاس على الشَّخص من غير تطلُّعه لذلك دليلُ خيرٍ وبشارة في الدُّنيا للممْدوح؛ فعن أبي ذر قال: قيل لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أرأيتَ الرَّجُل يعمل العمل من الخير، ويحمَده النَّاس عليه؟ قال: «تلك عاجل بُشْرى المؤمن» (رواه مسلم (2642).

عباد الله:
حاصل ما تقدَّم أنَّ شرف الآخِرة يَحصُل معه شرف الدُّنيا، وطلب شرف الدُّنيا لا يجامع شرف الآخرة.

__________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان