الفكر الغربي بين الحراك والجموح

يكمن البَهَر الذي يحمله الفكر الغربيُّ في ذلك الطُّموح الدائم، والسَّعي الدؤوب للمضيِّ إلى الأمام، إنه في ذلك التجديد المستمرِّ، ورفض الجمود والثبات، إنه فكرٌ يتحرَّك باستمرار، لا يعرف الركودَ ولا التوقُّف.

  • التصنيفات: قضايا الشباب - قضايا إسلامية -

يكمن البَهَر الذي يحمله الفكر الغربيُّ في ذلك الطُّموح الدائم، والسَّعي الدؤوب للمضيِّ إلى الأمام، إنه في ذلك التجديد المستمرِّ، ورفض الجمود والثبات، إنه فكرٌ يتحرَّك باستمرار، لا يعرف الركودَ ولا التوقُّف.


ولا شكَّ أن هذا من مميِّزات الفكر الغربيِّ، ومن إنجازاته الرائعة، إنه في هذا السعي المِلحاح إلى تجاوز الواقع الراهن، وإلى الخُروج على المألوف السائد الذي قد يكون أَسَنَ وتعفَّن من كثرة الاجترار والتكرار..


صحيحٌ أن هذا الفكرَ يشتطُّ ويتطرَّف، ويَجمَح ويرمَح، حتى يبلغ الغلوُّ به الرغبةَ في تحطيم كلِّ قديم لمجرَّد أنه قديم، والخروجَ على كلِّ تراث، ونسفَ كلِّ عُرف، غيرَ متوقِّف في هذه الرغبة الجامحة عند حدٍّ. انعدمت فيه الثوابت، وتهاوت اليقينيَّات، وتحطمت تحت مِطرقة التجاوز أيةُ معرفة ذات قَداسة، أو عصمة، أو قطعيَّة، واستوى البشريُّ مع الإلهي، والوحيُ مع آراء الناس، إن بقي ثمةَ إيمانٌ بما هو وحيٌ أو إلهي، أقول: صحيحٌ هذا الشططُ الذي انحدر إليه الفكر الغربيُّ، حتى تحوَّل إلى مجزرة يذبح فيها الآباءُ الأجدادَ، والأحفادُ الآباءَ، في سلسلة لا تنتهي من المجازر والمذابح، ولكن تبقى في هذا الفكر – بعد أن نجتنبَ فيه هذا الجموحَ الكارثيَّ – آليَّةٌ هامَّة فعَّالة، هي آليةُ الحرص على المضيِّ إلى الأمام، حتى إنه ليقدِّم باستمرار مناهجَ جديدة للتعامل، ويُفَعِّل – من غير توقُّف – وسائلَ النقد والنقد المضاد.


إننا – نحن العربَ والمسلمين على وجه الخصوص – محتاجونَ إلى أن نستعيرَ من الفكر الغربيِّ هذا الطُّموح الوثَّاب، أن نتعلَّم – والحكمةُ ضالَّة المؤمن – السعيَ الجادَّ وراء الجديد المفيد، وتطويرَ المناهج والطرائق والآليَّات نحو الحسن النافع.


إننا الآن أمةٌ – على عكس ما يأمر دينُنا: قرآناً وسنةً – قد استكانت منذ عهد بعيد إلى الدَّعَة والكَسَل، استَنامَت إلى الأرض، واعتمدَت على الآخَر: سواء أكان هذا الآخرُ تراثاً قديماً جاهزاً، أم بضاعةً غربيَّةً مُستورَدة، نحن أمةٌ يتوازعُها اليوم اتِّجاهان كلاهما نِتاج الكسل، والاسترخاء، وإيثار الاعتماد على المُعَدِّ الجاهز، وهذان الاتِّجاهان الكسولان هما:

1 – اتجاهُ قوم ناموا في أحضان القديم، هَجَعوا في حَرَم التراث وحدَه، لا يريدون أن يتجاوزوه؛ ليُعلوا بُنيانه، ويرفعوا أساسَه، ويطوِّروه حتى يخرجوا به إلى آفاقٍ أرحبَ وأجدَّ.


2 – اتجاهُ قوم ارتَمَوا في أحضان فكر الآخَر، فكر الغرب القويِّ المهيمن، بعُجَره وبُجَره، بصالحه وطالحه، لم يحاوروه أو ينقدوه، أو يستنطقوه، أرادوه جُملةً واحدة، ظانِّين في هذا الاتجاه الحلَّ للخروج من قاع التخلُّف إلى ذُرا التقدُّم والازدهار.


إن هؤلاء القومَ يأتَسون بما سبق أن أعلنَه طه حسين ذات يوم في كتابه ((مستقبل الثقافة في مصر)) حيث قال: ((علينا أن نسيرَ سيرةَ الأوروبِّيين، ونسلكَ طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاءَ في الحضارة: خيرها وشرِّها، وحلوها ومرِّها، وما يُحَبُّ منها وما يُكرَه، وما يُحمَد منها وما يُعاب.. وأن نُشْعِر الأوروبيَّ بأننا نرى الأشياءَ كما يراها، ونقوِّم الأمورَ كما يقوِّمها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها[1].


وكلا الفريقين – كما قلتُ – على خطأ بيِّن، وهو كسول متقاعس، يعتمد على المنجَز الجاهز، سواء في التراث أو في الحداثة، وكلاهما ليسا من صُنعه، ولا يدَ له في صياغة أحدهما، وكلاهما مما يُبطل العقلَ العربيَّ والعقل المسلم، ويشلُّه عن الإبداع والتجديد؛ لأنه تقليدٌ، ولا أصالةَ في التقليد.


إن التراث وحدَه لا يصنع لنا مشروعاً حضارياً؛ لأنه يتحدَّث عن زمن فات، وعن جيل غير جيلنا، وعن قضايا غير قضايانا اليوم، وإن الفكرَ الغربيَّ وحدَه – بكلِّ ما حقَّق من إنجازات باهرة، وقفزات خياليَّة في عالم الفكر والأدب والعلم – لا يصنعُ لنا هذا المشروعَ المنشود كذلك، لأنه انطلق من قيم غير قيمنا، ومن حضارة غير حضارتنا، ومن أمَّة مرَّت بظروف غير ظروفنا، ومن إنسان عاش ما لم نعش، وعرف ما لم نعرف.


علينا أن نستوعبَ تراثنا جيداً، أن نقرأَه بوعي وعُمق، من غير تقديس ولا جُمود، وعلينا كذلك أن نجتهدَ اجتهاداً دؤوباً مخلصاً في فهم ما يُنتجه الغرب، غيرَ هيَّابين ولا وَجِلين، وأن نوجدَ الآليَّات الصحيحةَ للتعامل معه سلباً أو إيجاباً.

وما هذا علينا بجديد، لقد كان هو منهجَ أسلافنا عندما انفتحوا على ثقافات الأمم الأُخرى في العصرين الأمويِّ والعباسيِّ وما تلاهما من عصور.

ـــــــــــــــــــــــ

[1] انظر ((مستقبل الثقافة في مصر)) طه حسين (مصر: 1938م).

_______________________________________________________
الكاتب: د. وليد قصاب