(4) الانفتاح المحمود (الوعي والاستقلال الفكري)

عبد الرحيم بن صمايل السلمي

المتأمِّل في التاريخ الإسلامي يجد أن الأمة الإسلامية تعاملتْ مع غيرها من الأمم، من خلال الفتوحات الإسلامية الواسعة التي شملتْ دائرة واسعة من الأرض في زمن يسير.

  • التصنيفات: الإسلام والعلم -

المتأمِّل في التاريخ الإسلامي يجد أن الأمة الإسلامية تعاملتْ مع غيرها من الأمم، من خلال الفتوحات الإسلامية الواسعة التي شملتْ دائرة واسعة من الأرض في زمن يسير.

 

وعندما دَخَل المسلمون هذه البلاد الواسعة مع تنوُّع ثقافاتها واختلاف مناهجها وفهمها للإنسان والكون والحياة، استطاعوا التعامل معها بنفعها بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والانتفاع بأخذ الأمور الدنيوية المفيدة، وترك ما لا فائدة منه، ولم يذوبوا في هذه المجتمعات.

 

وأساس هذا الانتفاع هو أن المنهج الرباني يأمر بعمارة الأرض وبناء الحياة وتطويرها وفق منهج عقدي محدد، وبهذا استطاعوا الجمع بين الثبات على الإسلام عقيدة وشريعة، مع أخذ المفيد من الحضارات المختلفة.

 

وعندما انْحَرَف طائفةٌ من المسلمين - المتكلمون والفرَق الضالة عمومًا - في هذه المعادلة المتقنة، وأخذوا من الأمم الجاهلية أمورًا منافية لكتاب الله تعالى؛ عابهم عامةُ الأمة، وحذروا منهم وسموهم "أهل الأهواء".

 

ومِنْ هنا نلاحظ أنَّ الانفتاح المنضبط الذي حصل في الأمة الإسلامية نوعان:

1 - تشجيع الإبداع والاختراع بناء على أن هذه الأمة هي أمة العلم والفكر والبناء.

2 - الاستفادة مما لدى الأمم الأخرى من الإبداع الإنساني الذي لا يُخالف الإسلام.

 

وقد تقدَّم بيان تضمن الشريعة الإسلامية للحثِّ على العلم والمعرفة والنظر والتفكُّر والعقل، مما يدلُّ على المرونة والسعة والانفتاح الذي تتمتَّع به.

 

ولهذا استطاع جيلُ القرون الثلاثة المفضلة أن يضعوا قانونًا منْضبطًا لحفْظ العلوم الدينية وماله ارتباط بها مثل العلوم العربية والتاريخية وغيرها، وكذلك استطاعوا التعامُل الصحيح مع أبناء البلاد المفتوحة مع اختلاف ثقافاتهم، وتنوُّع أفكارهم.

 

وفيما يأتي إطلالة يسيرة على الوعي الحضاري الذي تمتع به السلف الصالح، والانفتاح المعرفي الواثق من نفسه، والذي يراعي القواعد الشرعية ومقاصدها وروحها ونصوصها وتحويلها إلى واقع اجتماعي وثقافي تتربَّى عليه الأمةُ بأسْرها:

1 - ضبط العلوم وتدوينها:

لم ينته القرن الثالث الهجري إلا وقد ضبطت كافة العلوم الشرعية ضبطًا دقيقًا، وكذلك ما يتعلق بها من علوم الآلة، فقد تم وضع قواعد قبول الرواية وفحصها، وما يتعلق بمصطلح الحديث، وما يتبع ذلك من الكلام في الرجال، وقواعد الجرح والتعديل، ونقد المتون المروية بما لَم يوجد مثله في أي أمة من أمم الأرض، ولعل من يطالع موضوعات كتب المصطلح يعلم مدى الوعي الفكري الموجود عند علماء الحديث، وكذلك تَمَّ ضبط مناهج الاستدلال وطرقه وأساليبه وآلاته مأخوذة من اللغة والقرآن وطريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.

 

وأول مَن دوَّن أصول الفقه هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - وكانت الأصول قبله لَم تُدَوَّن في كتاب، وكذلك الأمر في اللغة، وحفظ لسان العرب من الاختلاط بغيره من الألسنة واستقراء وتتبع الكلمات العربية ورد النظائر بعضها إلى بعض واستخلاص القواعد المنظمة لها وهكذا سائر العلوم وما له ارتباط بها.

 

وعند النظر في قواعد وأصول كافة العلوم الإسلامية والعربية، ندرك عمق الإبداع والوعي الفكري والحضاري الموجود في الأمة، إن هذا الدور لا يمكن أن يقوم به مقلِّد أو متقوقع أو جامدٌ أو غافل.

 

والحقيقة أن أساس فلسفة الغرب ومنطقه الحديث الذي يفخر به على الإنسانية ومن خلاله استطاع اكتشاف المخترعات الحديثة هو (المنهج التجْريبي) و(الاستقراء العلمي)، وصورته الإدراك واليقين بأن الكونَ مُؤسس على العلل والأسباب وأنها مطردة، وبناءً على ذلك فإن اكتشاف العلة عن طريق فرض الفروض واختبارها وتزييف الزائف منها ليخلص من خلاله إلى معرفة العلة الحقيقة، وهذا ما يسمى (الاستقراء الناقص).

 

والوصف بالنقْص ليس المراد به الذم، بل هو وصف لحقيقته، فإنه لا يتتبع كل الفروض ولكن يتتبع ما يوصله لاكتشاف العلّة المطردة في بقية الأنواع، فهو ليس بحاجة إلى استقراء تام وهو غير ممكن في الواقع، ولهذا سَمَّاه فرنسيس بيكون: (استقراء الصبيان)[20].

 

هذا الاستقراء هو ما سُمِّي في مناهج البحث الحديث (المنهج الاستقرائي التجريبي)، وهذا المنهج موجود عند علماء السلَف الصالح قبلهم.

 

فاستقرا الكلمات العربية جميعًا أمر مستحيل؛ لأن اللغة لا يحيط بها إلا نبي، واستقراء أنواع الكلمات العربية إلى: اسم وفعل وحرف استقراء علمي قائم على الكفاية بالجزء للدلالة على الكل[21]، وهكذا الأمر في طرق الاستدلال الأصولي[22].

 

2 - الأدلة العقلية على القضايا العقدية:

إنَّ المتأمل في تعامل القرآن الكريم مع قارئه والناظر فيه، يتضح له أنه يعتمد على إقناعه بالبراهين والآيات والأمثال، وليس على مجرد التلقين كما يلقن الصبيان.

 

فقد أصَّل القرآن مبرر قبول العقيدة واعتناقها بتأصيله لإثبات وجود الله وربوبيته وألوهيته، وإثبات صدق الرسول وأدلة نبوته، وإثبات صحة الدين، وتأسيس ذلك على العقل، فالقرآن يفيض بالأدلة والبراهين القاطعة على أساسيات الإسلام ومصادره[23].

 

وهذا يدل على أن التربية القرآنية قد نَمَّت الوعي والانفتاح العلمي من حيث بناء العقيدة الإسلامية، ومن حيث نقد المخالفين لها، ولهذا نجد أن الله تعالى يُطالب من يعارض عقيدة الإسلام بالبراهين المقنعة؛ ﴿  {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}  ﴾ [البقرة: 111].

 

فليس المطلوب من الإنسان الإيمان بعقائد المسلمين دون دليل؛ لأن القرآن تضمن الأدلة بما يكفي المنصف الذي يريد الحق، أما المكابر والمعاند فلا تقنعه رؤية الشمس عيانًا.

 

ودلالة ما تقدم هي أن هذا الدين مبنيٌّ على الأدلة العقلية المقنعة، وقد نمّى هذا الشعور لدى المؤمن به الثقة واليقين بصحة عقائده ووعده ووعيده، وحث على الدعوة إليه بالطرق البرهانية، ولهذا جاءتْ عقائده محررة للعقول والنفوس من الأوهام والخرافات والأساطير والعقائد الفاسدة، والتقليد الأعمى، ومتابعة الآباء والأجداد دون برهان وبينة، ونحو ذلك من القناعات الوهْمِيَّة التي لا دليل عليها.

 

والغرض هنا الإشارة إلى تنمية الإسلام للوعي والإبداع والتطور، وتضمنه لذلك دون الحاجة إلى استعارة مناهج وأفكار أجنبية عن المجتمع الإسلامي.

 

ولهذا اعتبر الدكتور علي سامي النشار - وهو ممن له عناية بالفلسفة وتاريخها - أن أصول الفقه والتاريخ من أبرز الإبداعات الفلسفية عند المسلمين[24]، وبِغَضِّ النظر عن تسمية مثل هذه العلوم فلسفة أو مناقشته فيها، إلا أنه يدل على شعور بعُمْق الإبداع والاختراع والتألُّق فيها ممن درس كتب الفلسفة، وتعرف على مداخلها ومخارجها.

 

والمقصود هنا: أن الإبداع الذي تَمَّ في تأسيس العلوم ووضع قواعدها يدل على أرقى درجات الوعي العلمي الذي وجد عند علماء المسلمين الأوائل.

 

ولعلَّ مَن أراد اكتشاف ذلك يكفيه أن يقرأ نشأة هذه العلوم، وطرق تدوينها، والأساس المنطقي لهذا التقعيد والتأسيس ونحو ذلك، والمقصود هنا الإشارة وأخْذ الدلالة فقط.

 

3 - سعة الاطِّلاع:

مَن يقرأ تراجم علماء السلَف الصالح يُدرك التوسُّع الهائل عندهم في تلقِّي العلوم ودراستها، وقد رحلوا في سبيل ذلك وبذلوا الغالي والنفيس.

 

قال الأزهري: "كان الدارقطني ذكيًّا، إذا ذكر شيءٌ من العلم[25] وجد عنده منه نصيب وافر، لقد حدثني محمد بن طلحة النعالي أنه حضر مع الدارقطني دعوة فجرى ذكر الأكلة فاندفع الدارقطني يورد نوادر الأكلة، حتى قطع أكثر ليلته بذلك"[26].

 

ومحمد بن عبدالباقي الأنصاري المتوفَّى سنة 535 هـ لما أسر في أيدي الروم تعلَّم منهم اللغة الرومية والخط الرومي، ولهذا قال عن نفسه: "ما من علم في عالم الله إلا وقد نظرت فيها وحصَّلْت منه بعضه أو كله"[27].

 

يقول الصفدي عن شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "أخبرني المولى علاء الدين علي بن الأموي، وهو من كبار علماء الحساب قال: دخلت يومًا إليه أنا والشمس النفيس صاحب بيت المال - ولم يكن في وقته أكتب منه - فأخذه الشيخ تقي الدين يسأله عن الارتفاع، وعما بين الفذلكة واستقرار الجملة من الأبواب، وعن الفذلكة الثانية وخصمها، وعن أعمال الاستحقاق، وعن الختم والتوالي، وعن ما يطلب من العامل، وهو يجيبه عن البعض ويسكت عن البعض، ويسأله عن تعليل ذلك؟ إلى أن وضح له ذلك وعلله، قال: فلما خرجنا من عنده قال لي النفيس: والله تعلمت اليوم منه ما لا كنت أتعلمه، انتهى ما ذكره علاء الدين"[28].

كل هذا الاطلاع في صحة عقيدة، وحسن تدين، وهذا يدل على أن الثقافة والاطلاع لا يلزم منها فساد العقيدة والتخبُّط فيها.

ويقول أبو البقاء السبكي: "أعرف عشرين علمًا لم يسألني عنها بالقاهرة أحدٌ"[29].

 

وفي كتب التراجم عجائب من سعة الثقافة والاطلاع على العلوم عند علماء المسلمين الأوائل ممن لم يلج في البدع والعقائد الضالة المنحرفة، وقد وجد فيهم من الحرص والشغف بالكتب قراءة وتحصيلاً الشيء العجيب، فقد كانوا يكررون قراءة بعض الكتب المهمة مئات المرات.

 

ويقرؤون المطولات في المجالس المعدودة قراءة ضبط وتدقيق، ويدرسون الكتب مرات كثيرة، وكذلك الأمر في نسخ الكتب وكتابتها.

هذه بعض الإشارات التي تدل على مدى إبداع علماء السلف، وعُمق علومهم واطلاعهم، والمتأمِّل في علمهم وعملهم يدرك أن أبرز سبب في عُمق علومهم هو انتهاجهم للمنهج الرباني، والسير على درب الأنبياء، وتعظيم حق الله تعالى ورسله وكتبه، فإن من جهل معرفة الله تعالى وحقه، فهو بغيره أجهل، حتى لو تزيَّن بلباس الثقافة، ومن عرف الله تعالى ودينه، فإن الله تعالى يعرفه ما سوى ذلك.

 

ولكن قد يقول قائل: إن المخالف في هذه القضية (الانفتاح) - سواء الفلاسفة أو المتكلمون أو التنويريون العصرانيون حديثًا - لا يخالف في أن الإسلام جاء بالوعي والانفتاح، بل إنه يتخذ من ذلك ذريعة لتبرير واقعه ودعوى أن ما يقوم به يوافق الإسلام، خاصة وأنَّ هذه المرحلة تشهد تخلي كثير من التنويريين عن محاربة الإسلام ومصادره بصورة فاضحة مكشوفة، فقد اتجهوا إلى تبرير أفكارهم وعقائدهم والاستدلال عليها من القرآن والسنة، وذلك من خلال (تأويل) نصوصه، وقراءتها قراءة تأويلية جديدة لتوافق مذاهبهم.

وهذا القول صحيح، فلم يعد الخلاف في شعار الإسلام العام، وأنه يحمل كل وعي وخير وفلاح للإنسانية، ولكن الشأن في تفسيره وقراءته.

 

ولكن حديثي المتقدم كان المقصود به الإسلام الصحيح الذي لم يدخله التحريف والتأويل، وتأويلات أهل الباطل قديمًا وحديثًا لا تلغي أن لفظ (الإسلام) إذا أطلق فإنه يقصد به الاستسلام التام لأمر الله تعالى، كما أراده الله تعالى، ونحن نجزم عن علم ويقين أنه يمكن لنا معرفة ما أراده الله تعالى في أصول العقيدة والإيمان وقواعد الإسلام ومقاصده الكبرى، وهي ما أجمع عليه المسلمون منذ عهد الرسالة الخاتمة، ومخالفة هؤلاء الزنادقة أو المبتدعة لا تقدح في صحة هذا الإجماع واليقين بما يتضمنه.

 

وكما حفظ الله تعالى لفظ القرآن والصحيح من السنة من عدم دخول التحريف فيها، فكذلك حفظ معنى القرآن وصحيح السنة؛ وذلك بالعلوم المعيارية المنضبطة (علم الرواية = مصطلح الحديث، وعلم الدراية = أصول الفقه)، وبهذه العلوم الضابطة لفوضى الفهم والقراءة لنصوص الوحي، ينضبط ما اتفق عليه من أمور العقائد وأصول الأحكام والأخلاق والأنظمة وغيرها من المحكمات المجمع عليها.

 

وليس كل مَن تأول شيئًا من النصوص يكون تأويله مقبولاً أو معذورًا فيه، فالباطنية تأولوا النصوص الشرعية بطريقة عابثة، كحال دعاة التنوير اليوم، ولم يؤثر انتسابهم إلى الإسلام على مسماه العام، فإنه إذا أطلق لا يدخل فيه هؤلاء الزنادقة.

وهكذا الحال في أهل البدع من المتكلمين والصوفية والعصرانيين ونحوهم.