في آخر جمعة من رمضان

الله الله في الثبات على طاعتك، في الثبات على صلاتك في المساجد، في الثبات على قيام الليل وصلاة الوتر، وقراءة القرآن، والتصدق ولو بالشيء القليل..

  • التصنيفات: ملفات شهر رمضان -

أيها المسلم الكريم، ها نحن نعيشُ في آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، وبعد أيام سيودِّعنا شهر رمضان، وتلك هي سُنة الله في خلقه، فلكلِّ بداية نهاية، ودوام الحال من المحال، وكل شيءٍ لا محالة زائلٌ، فكما انقضى رمضان بهذه السرعة المذهلة، ستَنقضي أعمارنا، بل ستنقضي الدنيا كلها، ومن الحماقة أن يركَن الإنسان إلى هذه الدنيا، ويطمئن إليها، ويؤثرها على الدار الآخرة، قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}  [الأعلى: 16، 17].

 

 

ونحن في آخر جمعة من رمضان، اسأل نفسك أخي المسلم: هل أنت راضٍ عن نفسك في شهر رمضان؟ هل سلوكك في رمضان كان على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل صمت وقمتَ رمضان إيمانًا واحتسابًا؟ هل صام سمعُك وبصرُك ولسانك عن الحرام؟ هل كنت من المحافظين على الصلاة في المساجد؟ هل أخرجت شيئًا من مالك وأعنت به الفقراء والمساكين؟ هل رمضان سيشهد لك أمام الله بالصيام والقيام وتلاوة القرآن وفعل الخيرات، أم أنه سيشهد عليك بتضييعك للصلاة والصيام والقرآن؟

 

ونحن في آخر جمعة من رمضان أذكركم فأقول: لنحذَر من أن نكون مثل بَلْعَام بْن بَاعُورَاءَ، من هذا الرجل يا تُرى؟ وما قصته؟ ولماذا خلَّد الله تعالى قصته في كتابه العزيز؟

بَلْعَام بْن بَاعُورَاءَ رجل حدثنا عنه ربُّنا جل جلاله في كتابه العزيز، وقص قصته على نبينا صلى الله عليه وسلم، وأمره بأن يقصَّها على أمته؛ لتتَّعظ منها وتأخذ الدرس والعبرة منها.

 

بَلْعَام بْن بَاعُورَاءَ عالم من علماء بني إسرائيل، كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، لا يَسْأَلُ الله شَيْئًا إلاَّ أعْطَاهُ إيَّاهُ، وهو من أصحاب سيدنا موسى (عليه السلام)، ومن المقربين إليه، بلَغ من ثقة سيدنا موسى فيه أن أرسله إلى أهل مدين ليبلِّغهم رسالات الله، ويدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وتوحيده، فلما ذهب بلعام ووقف بينهم خطيبًا ومرشدًا، قال له أهل مدين: كم يعطيك موسى من الأجر على تبليغ هذا الكلام؟ فقال بلعام: إنما أبلِّغه ابتغاء مرضاة الله، ولا أتقاضى على ذلك أجرًا، فقالوا له: سنعطيك الدراهم والدنانير، والذهب والفضة، واترُك دعوة موسى، فرفض في بداية الأمر، لكنه جلس يفكِّر: أيختار الذهب والفضة أم سيدنا موسى؟! أيختار الدراهم والدنانير أم الدعوة إلى الله؟!

 

راح يفكِّر ويقارن بينهما، وأنتم تعلمون أن المال له سحرُه وبيانُه، وكيف يؤثِّر في النفوس، وإذا به قد اختار الدنيا، واختار المال، وترك دعوة موسى (عليه السلام)، وانقلب على عقبيه، ترك حلاوة الإيمان وراح يركُض وراء الدنيا.

 

احذَروا من الدنيا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»  [1].

 

فبلعام اختار الدنيا، وترك دعوة موسى (عليه السلام)، وظل سيدنا موسى (عليه السلام) ينتظر عودته إليه، ولكنه لم يعد؛ لأنه باع آخرته بدنياه، واشترى الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة.

 

وعندئذ قص الله عز وجل قصته على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخلَّدها في كتابه العزيز؛ ليحذَّرنا من أن نكون مثل بلعام، فبعد أن ذاق حلاوة الإيمان وآتاه الله آياته، انقلب على عقبيه واشترى الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، وانسلخ من آيات الله كما تنسلخ الحية من جلدها، فقال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}  [الأعلى: 16، 17].

 

فالله تعالى من خلال قصة بَلْعَام بْن بَاعُورَاءَ يريد أن يخاطب كلَّ واحد فينا، فيقول له: يا مسلم، إياك أن تبيع دينك كما باعه بلعام، إياك أن تترك حلاوة الإيمان بعد أن ذُقتَها في رمضان كما تركها بلعام، إياك أن تتخلى عن طاعتك وعبادتك بعد رمضان كما تخلَّى عنها بلعام.

 

 

فهذه رسالة لك أيها المسلم ونحن في آخر جمعة من رمضان، الله الله في الثبات على طاعتك، في الثبات على صلاتك في المساجد، في الثبات على قيام الليل وصلاة الوتر، وقراءة القرآن، والتصدق ولو بالشيء القليل، فمن كان يعبد رمضان، فإن رمضان سينتهي وسيزول، ومن كان يعبد الله فإن اللهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ وباق لا يزول، فاستقِم يا أخي على طاعتك، فالله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}  [الحجر: 99]؛ أي: واظِب وداوِم أيها الرسول الكريم على عبادة ربِّك وطاعته ما دمت حيًّا، حتى يأتيك الموت.

 

عَنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلى اللهِ؟ قَالَ: «أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» [2].

 

قال ابن بطال (رحمه الله):"إنما حضَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمته على القصد والمداومة على العمل، وإن قلَّ خشية الانقطاع عن العمل الكثير، فكأنه رجوع في فعل الطاعات، وقد ذمَّ الله ذلك"[3].

 

قال الإمام النووي (رحمه الله):"وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ، وَأَنَّ قَلِيلَهُ الدَّائِمَ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يَنْقَطِعُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَلِيلُ الدَّائِمُ خَيْرًا مِنْ الْكَثِيرِ الْمُنْقَطِعِ؛ لِأَنَّ بِدَوَامِ الْقَلِيلِ تَدُومُ الطَّاعَةُ وَالذِّكْرُ وَالْمُرَاقَبَةُ وَالنِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيُثْمِرُ الْقَلِيلُ الدَّائِمُ بِحَيْثُ يَزِيدُ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُنْقَطِعِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً"[4].

 

قال ابن رجب (رحمه الله):"من عمل طاعة من الطاعات وفرَغ منها، فعلامة قَبولِها أن يصِلَها بطاعة أخرى، وعلامة ردِّها أن يُعقِبَ تلك الطاعة بمعصية"[5].

 

فمن أعظمِ الخسران أن يضيِّعَ العبد ما كَسَبه، فيرتدَّ بعد الإقبال على الطاعة مقبلًا على المعصية! وبعد المسارعة إلى الخيرات معرضًا عنها، فليحذَر المسلم الصائم أن ينقلب خاسرًا بعد رمضان.

 

المسلم الحقيقي هو من يكون مستمرًّا على طاعة الله، مستقيمًا على دينه، لا يعبد الله في شهر دون شهر، أو في مكان دون آخر، لا، بل يعلم أن ربَّ رمضان هو ربُّ بقية الشهور والأيام.

 

ليس المسلم الذي في رمضان لا يصلي الصلوات الخمس إلا في المسجد، وبعد رمضان يهجُر المساجد، لا، فخير العمل هو الذي يستمر عليه، ويجعل له صلة بينه وبين المسجد ولو وقتًا واحدًا في اليوم، وهو أضعف الايمان، كذلك تلاوة القرآن إذا كنتَ تقرأ في رمضان جزءًا كاملًا، فلا تتركه بعد رمضان ولو أن تقرأَ صفحة واحدة، صلاة القيام صلاة الوتر صلاة الضحى، والصدقات وغيرها، احرِص عليها، فخير العمل ما قلَّ ودامَ.

 

أيها المسلم الكريم، ما دُمنا على أبواب العيد، أذكِّر أولياءَ الأمور بخطورة الألعاب النارية والمفرقعات التي يقوم الأطفال بشرائها واللعب بها:

1- فهي تؤدي إلى ترويع الآمنين، وتؤذي بأصواتها العالية المُزعجة المرضى والدارسين والنائمين والصغار والكبار، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا»  [6].

 

2- فيها إتلاف للمال من غير فائدة، وهذا من التبذير والإسراف المنهي عنه، يقول الله عز وجل:{ولَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}  [الإسراء: 37]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» [7].

 

3- أنها غير مأمونة الاستعمال، وتؤدي إلى حوادثَ وحرائقَ، وتؤذي السمع والبصر بسبب الشرر المتطاير، كما يتعدى الضرر إلى الجلد بسبب رمادها.

 

فما أحوجَ المسلمين إلى التخلق بالأخلاق التي دعانا إليها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، فيشعر بعضُنا ببعضٍ، ولا يؤذي أحدٌ منا الآخر، ونتسابق على إزالة الأذى؛ رغبة في الأجر، ودفعًا للضرر عن الغير.

 

ونقول لكلِّ مسلمٍ يَحِقُّ لك أن تَفرَحَ في الأعياد كيفما شئتَ، ولكن من خلال وسائل لا تضرُّ ولا تسبِّب إزعاجًا، فيكون الفرحُ بذكر الله عز وجل، والتكبير، والتواصل والتراحم، والتهنئة بعبارات الشكر، والحمد لله عز وجل على توفيقه بصيام شهر رمضان.

 

 

 


[1] صحيح مسلم، كِتَابُ الْإِيمَانَ - بَابُ الْحَثِّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْأَعْمَالِ قَبْلَ تَظَاهُرِ الْفِتَنِ: (1/ 110) ، برقم (118).

[2] صحيح مسلم، كِتَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِينَ وَقَصْرِهَا - بَابُ فَضِيلَةِ الْعَمَلِ الدَّائِمِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهِ: (1/ 541)، برقم (782).

[3] شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 179).

[4] شرح النووي على مسلم (6/ 71).

[5] لطائف المعارف لابن رجب (ص: 224)

[6] سنن أبي داود، كتاب الأدب - باب من يأخذ الشيء على المزاح: (7/ 352)، برقم (5004) بإسناد صحيح.

[7] صحيح البخاري، كتاب الزكاة - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ): (2/ 153)، برقم (1477)، وصحيح مسلم، كتاب الأقضية - بَابُ النَّهْي عَنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ مَنْعٍ وَهَاتِ، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ لَزِمَهُ، أَوْ طَلَبِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ: (3/ 1341)، برقم (593).

_________________________________________________
الكاتب: د. محمد جمعة الحلبوسي