من مواقف الآخرة

النفخ في الصور - الموازين - عذاب أهل النار - تبكيت وتوبيخ وتقريع أهل النار - تمني خروج أهل النار منها - إهانة أهل النار ومنعهم من كلام الله - استهزاؤهم في الدنيا بأهل الإيمان - فوز أهل الإيمان بالجنة بسبب صبرهم.

  • التصنيفات: التفسير - الدار الآخرة -

قال تعالى في سورة المؤمنون: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ* أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 101 - 111].

 

ذكرت هذه الآيات عدة أمور:

(1) النفخ في الصور.

(2) الموازين.

(3) عذاب أهل النار.

(4) تبكيت وتوبيخ وتقريع أهل النار.

(5) تمني خروج أهل النار منها.

(6) إهانة أهل النار ومنعهم من كلام الله.

(7) استهزاؤهم في الدنيا بأهل الإيمان.

(8) فوز أهل الإيمان بالجنة بسبب صبرهم.

 

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ}؛ أي: لقيام الساعة، والمراد بهذا النفخ: النفخة الأولى، وقيل: النفخة الثانية.

 

قال ابن مسعود: يؤخذ بيد العبد يوم القيامة، فينصب على رؤوس الأولين والآخرين، ثم ينادي منادٍ: هذا فلان ابن فلان، فمن كان له قبله حق؛ فليأتِ إلى حقِّه، فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده، أو ولده، أو زوجته، أو أخيه، فيأخذه منه، ثم قرأ ابن مسعود: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}، فيقول الرب سبحانه وتعالى: آتِ هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب، قد فنيت الدنيا، فمن أين أوتيهم؟ فيقول الرب للملائكة: خذوا من حسناته، فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته، فإن كان وليًّا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل، فيضاعفها الله تعالى حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ ابن مسعود رضي الله عنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، وإن كان شقيًّا؛ قالت الملائكة: ربنا فنيت حسناته، وبقي طالبون، فيقول الله تعالى: خذوا من أعمالهم، فأضيفوها إلى سيئاته، وصكوا له صكًّا إلى جهنم.

 

قيل: ومعنى {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ}؛ أي: لا يتفاخرون بالأنساب يومئذٍ، كما كانوا يتفاخرون بها في الدنيا، ولا يتساءلون سؤال تواصل، كما كانوا يتساءلون في الدنيا: من أنت؟ ومن أي قبيلة أنت؟ ولم يرد: أن الأنساب تنقطع.

 

والجمهور على أن صحائف الأعمال تُوزَن بميزان، له لسان، وكِفَّتان، ينظر إليه الخلائق إظهارًا للمعدلة، وقطعًا للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم فينكرون، ولكن تعترف بها ألسنتُهم، وتشهد بها جوارحهم، كما في سورة (النور)، وسورة (يس)، وسورة (فصلت).

 

والحكمة من وزن الأعمال مع علم الله بمقاديرها تتجلَّى في إظهار العدل الإلهي، وأن الله لا يظلم مثقال ذرة، وامتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا، وإقامة الحجة عليهم في العقبى، وتعريف العباد ما لهم من خير وشر، وحسنة وسيئة، وإظهار علامة السعادة والشقاوة.

 

{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}؛ أي: رجحت حسناته على سيئاته، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون برضا الله، ودخول الجنة، الناجون من سخطه، ومن عذاب النار؛ لأن الفلاح اسم جامع للخلاص من كل مكروه، والفوز بكل محبوب.

 

‌‌ {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}؛ أي: رجحت سيئاته على حسناته.

وقد ذكر الله في الآية السابقة السعداء الذين غلبت حسناتهم على سيئاتهم، وذكر في هذه الآية الأشقياء الذين غلبت سيئاتهم على حسناتهم، وبقي صنف ثالث؛ وهم من تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وهم أصحاب الأعراف.

 

وقوله: {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}؛ أي: ضيَّعوها، وحرموها من جزيل ثواب الله تعالى، وكرامته، {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} مقيمون، ماكثون، لا يخرجون منها أبدًا، فهذه هي خسارتهم، وأية خسارة أعظم من الحرمان من الجنة ونعيمها الدائم، والخلود في النار.

 

رُوي عن أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه أنه قال حين حضره الموت في وصيته لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتِّباعهم الحق في الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غدًا أن يكون ثقيلًا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدًا أن يكون خفيفًا.

 

وقال ابن كثير: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} [فاطر: 18]؛ أي: وإن تَدْع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تُسَاعَد على حَمل ما عليها مِن الأوزار أو بعضه {لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18]؛ أي: ولو كان قريبًا إليها، حتى ولو كان أباها أو ابنها، كُلٌّ مَشغول بنفسه وحاله، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37].

 

وقيل: إن الوالد ليتعَلق بِوَلده يوم القيامة، فيقول: يا بني، أي والد كنتُ لك؟ فَيُثْنِي خيرًا، فيقول له: يا بني، إني قد احْتَجْتُ إلى مثقال ذرة مِن حسناتك أنجو بها مما ترى، فيقول له ولده: يا أبت، ما أيْسَر ما طَلبت، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئًا، ثم يَتعلق بِزوجته فيقول: يا فلانة، أي زوج كنت لك؟ فَتُثْنِي خيرًا، فيقول لها: إني أطلب إليك حسنة واحدة تَهَبِينَها لي، لعلِّي أنجو بها مما ترين، قال: فتقول: ما أيْسَر ما طَلَبْت، ولكني لا أُطيق أن أعطيك شيئًا، إني أتخوف مثل الذي تتخوف، يقول الله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} الآية، ويقول تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}؛ انتهى من تفسير ابن كثير.

 

وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: قال: ليس شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة مِن أن يَرى مَن يَعْرِفه، مَخَافة أن يدور له عليه شيء، ثم قرأ: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.

 

وقوله: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} تحرق، واللفح كالنفح؛ إلا أنه أشد تأثيرًا {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}؛ أي: عابسون، وقد بدت أسنانهم، وتقلصت شفاههم، كالرأس المشوي في النار.

 

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}، قال: «تشويه النار، فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى؛ حتى تضرب سرته»؛ (أخرجه الترمذي).

 

‌‌ {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} في الآية الكريمة توبيخ، وتقريع للذين دخلوا النار من الكُفَّار؛ والمعنى: ألم تقرأ عليكم آيات القرآن، وزواجره، وفيها تبين طريق الحق والنور، والإسلام والسلام، فأعرضتم عنها، ولم تصدقوا بها، وكنتم من المكذبين بما فيها؛ حتى استحققتم هذا العذاب الأليم، والعقاب الشديد؟!

 

{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ}، وأحسن ما قيل في معناه: غلبت علينا لذاتنا، وأهواؤنا، فسمَّى اللذات والأهواء شقوة؛ لأنهما يؤديان إليها، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]؛ لأن ذلك يودي بهم إلى النار.

 

وقوله: {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ}؛ أي: كنا في فعلنا ضالِّين عن الهدى، وليس هذا اعتذارًا منهم؛ إنما هو إقرار.

 

{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا}؛ أي: من النار، طلبوا الرجعة إلى الدنيا، كما طلبوها عند الموت، {فَإِنَّا ظَالِمُونَ}؛ أي: لأنفسنا {قَالَ}؛ أي: الله مجيبًا لهم، {اخْسَئُوا فِيهَا}، اسكتوا سكوت هوان، {وَلَا تُكَلِّمُونِ}؛ أي: في رفع العذاب، أو تخفيفه، فإني لا أرفعه عنكم، فعند ذلك ييأس المجرمون من الفرج.

 

قال الحسن رحمه الله تعالى: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم لا يتكلمون بعد ذلك، ما هو إلا الزفير، والشهيق، وعواء كعواء الكلاب، لا يَفْهَمون، ولا يُفْهَمون.

 

وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي}؛ أي: المؤمنين، أمثال بلال، وخباب، وصهيب، وفلان، وفلان من ضعفاء المسلمين. {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا}؛ أي: بما أنزلت من القرآن، وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى والفرقان، {فَاغْفِرْ لَنَا}؛ أي: ذنوبنا، {وَارْحَمْنَا}؛ أي: برحمتك الواسعة التي وسعت كل شيء، {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}، وأنت أفضل وأكرم ممن يرحم.

 

{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا}، فجعلتموهم هزءًا، وسخرية تسخرون منهم، {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي}؛ أي: أنساكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم ذكري؛ أي: توحيدي، والإيمان بي، فلم تخافوني، ولم تحفظوا كرامة أوليائي، {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} استهزاء بهم.

 

وأضاف سبحانه الإنساء إلى المؤمنين؛ لأنهم كانوا سببًا لاشتغالهم عن ذكره، وتعدَّى شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكُفْر على قلوبهم.

 

ويستفاد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين، والاحتقار لهم، والإزراء عليهم، والاشتغال بهم فيما لا يعني، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل.

 

{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا}؛ أي: على أذاكم، واستهزائكم بهم، وصبروا على طاعتي، {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}؛ أي: بجميع مراداتهم في جنة عرضها السماوات والأرض.

____________________________________________________________
الكاتب: الشيخ نشأت كمال