من أسباب حياة القلوب

(العقيدة الصحيحة - العناية بالقلب وتفريغه من الصوارف والشواغل - طهر قلبك بالتوبة - تطهير القلب من الآفات - عليك بالقناعة)

  • التصنيفات: أعمال القلوب -

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أما بعد:
فإن القلب هو أساس الحياة في الإنسان، وبحسب حياة القلب وسلامته ونقائه؛ تكون حياة الإنسان وسلامته ونقاؤه، وهذه حقيقة دلت عليها الأدلة الشرعية، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبيّن أنّ السلامة والصلاح في الإنسان مرتبطة بصلاح قلبه فيقول:
«ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي: القلب». (البخاري).


ويقرر أيضا أن القلب هو موضع نظر الرب تبارك وتعالى، فيقول: «إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأَعْمالِكُمْ». (مسلم).


ومن هنا فإن العبد العاقل اللبيب هو من يبحث عن أسباب صلاح قلبه، وأسباب قوته وعافيته؛ لأنه يدرك أن أعظم أسباب نجاته يوم القيامة قدومه على ربه تعالى بقلب سليم: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ( [الشعراء: 88-89])
إذا كان الأمر كذلك، فسنعرض هنا لأهم الأسباب التي تجعل القلب حيا سليما نقيا؟.

أولًا: العقيدة الصحيحة:
مما لا شك فيه أن الإيمان من أعظم أسباب حياة القلب ونجاة صاحبه وراحته وسعادته:
{ومن يؤمن بالله يهد قلبه}[التغابن: 11].


فتوحيد الله نور يملأ القلوب، ويبصِّرها، ويقويها، فهو مادة حياته، وأساس قوته وسلامته، ولا حياة للقلب إلا بالإيمان بالله عز وجل، ذلك الإيمان الذي يصنع الطمأنينة في القلوب، والسكينة في النفوس؛ لأنه يولِّد فيها من التوكل على الله ما تهون أمامها الصِّعاب: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، ويجعل العبد من الذاكرين {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} ويولِّد في القلوب من الثقة بالله، واليقين به ما تزول به الهموم والغموم والأحزان، ويولِّد فيها من البصيرة والهدى ما يجعلها أكثر ثباتًا، وقدرة على مواجهة الصِّعاب، كما قال -تعالى-: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11].


إن هذا الإيمان والتوحيد الخالص لله تعالى هو الطريق إلى السعادة في الدنيا والآخرة قال -تعالى-: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه:123-124].


ومن هنا فإن تحقيق الهداية مشروط بتحقيق العقيدة الصحيحة، والإيمان النقي من شوائب الشرك بالله، وعلى قدر معرفة المؤمن بربّه، ويقينه به، تكون بصيرته وخشيته وهدايته كما قال -تعالى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28].


بعكس ضعيف الإيمان الذي له قلب نعم لكنه قد مات الإحساس في قلبه، فلا يسمع ولا يعقل كما قال -تعالى-: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، وكما قال -تعالى-: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ، وكما قال -تعالى-: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].


فقلب المؤمن قلب عاقل، لا تخدعه مظاهر الأشياء لأنه لا يرى بعينه فقط، وإنما بقلبه أيضًا، قال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
قال الشيخ عبد الرحمن السّعدي رحمه الله تعالى: فوصف الله المؤمنين بهذه الصفات المتضمنة للقيام بأصول الدين وفروعه، وظاهره وباطنه، فإنه وصفهم بالإيمان به إيمانًا: ظهرت آثاره في عقائدهم، وأقوالهم، وأعمالهم الظاهرة والباطنة، وأنه مع ثبوت الإيمان في قلوب - يزداد إيمانهم كلما تليت عليهم آيات الله، ويزداد خوفهم ووجلهم كلما ذكر الله؛ وهم في قلوبهم وسرهم متوكلون على الله.

 

ثانيًا: العناية بالقلب وتفريغه من الصوارف والشواغل:
فالقلب يتقلب ويزداد فيه الإيمان وينقص، وقد ثبت من حديث المقداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«لَقَلْبُ ابن آدمَ أشدُّ انقلابًا مِنْ القِدْرِ إذا استجمعتْ غليانًا». (رواه أحمد).


وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ». (رواه الترمذي). هذا التقلب هو الذي يجعل العبد أحيانا يغفل ويظلم نفسه بارتكاب المعاصي لا سيما مع وجود الشواغل والصوارف، فلابد للعبد أن يفرغ قلبه منها، ويقبل على ربه تبارك وتعالى.

ثالثا: طهر قلبك بالتوبة: 
إن هذا التقلب في الإنسان، ما خلقه الله -جل وعلا- إلا ليبتليه بخطئه كما يبتليه بصوابه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم». (رواه مسلم).
وليطلعه على رحمته إذا هو تبصَّر بذنبه وعاد إلى الله تائبًا طائعًا، ومن هنا لابد أن نعلم أننا في كل وقت وحين في حاجة إلى تجديد التوبة والإكثار من الاستغفار؛ فإنهما يطهران القلب من شوائب المعاصي وآثارها وسوادها، ولهذا أوصى الله -جل وعلا- عباده المؤمنين بالتوبة، وجعلها أساس فلاحهم فقال:
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].


وفي الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربدًّا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه».(رواه مسلم).

رابعا: تطهير القلب من الآفات:
فإن طهارة القلب من أمراضه، وخلوّه من أعراضها، هو أعظم أسباب قوته ولينه ورقته وخشوعه، وصاحبه هو خير الناس وأحبهم إلى الله، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قلنا: يا نبي الله من خير الناس؟ قال:
«ذو القلب المخموم، واللسان الصادق» ، قال: قلنا: يا نبيَّ الله! قد عرفنا اللِّسانَ الصادِقَ، فما القلبُ المَخْموم؟ قال:
«التقيُّ النقيُّ؛ الذي لا إِثْمَ فيه، ولا بَغْيَ ولا حَسَدَ».قال: قلنا: يا رسول الله! فَمَنْ على أَثَرِهِ؟ قال: «الذي ‌يَشْنَأُ ‌الدنيا، ويُحِبُّ الآخِرَةَ».
قلنا: ما نَعْرِفُ هذا فينا إلا رافع مَوْلى رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَنْ على أَثَرِهِ؟ قال: «مؤمِنٌ في خُلُقٍ حَسَنٍ». قلنا: أمَّا هذه فإنها فينا. (رواه ابن ماجه).

فطريق نقاء القلوب كما في هذا الحديث هو اجتناب الإثم، والبغي، والحسد؛ لأن هذه الصفات من أخطر أمراض القلوب، والتي ما أصابت قلبًا إلا ملأته سوءًا، وظلمة، وطمست نوره وأضعفت بصيرته.


وإذا كانت الآثام تنكت نكتات سوداء في القلوب، فإن الحسد يأكل حسناتها الموجبة لنقائها كما تأكل النار الحطب.
(والحسد هو: تمني زوال نعمة المحسود، أو هو البغض والكراهية لما يراه من حسن حال المحسود، وهو طبع لئيم يسكن القلوب الضعيفة الميتة مهما كان شأن أصحابها، فلربما وجدت الضعيفة الميتة -مهما كان شأن أصحابها- فلربما وجدت المرء قد ملك من صفات الحسن، وأسباب الملك ما لم يملكه غيره؛ لكنه لغلبة طبعه الحاسد لا يحب رؤية النعمة على غيره.
كما أن الحسد هو نوع من الاعتراض على حكم الله -سبحانه-، كما قيل: من رضي بقضاء الله لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد).
وإذا تأملت في قول الله -جلّ وعلا-:
{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]؛ علمت أن الحسد طبعٌ غالبًا ما يتسلل إلى القلوب، لكن القلوب العامرة بالإيمان تبصر شعاعه، فتعكسه وتطرده وترده خائبًا، لكن القلوب الضعيفة تستجيب؛ ولذلك قال -تعالى-: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5].

قال ابن تيمية: (قيل: ما خلا جسد من حسد، ولكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه.

وَقد قيل للحسن البصري: أيحسد الْمؤمن فقال: ما أنساك إخوة يُوسُف لا أبا لك ولكن غمه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعد به يدا ولسانا. فمن وجد في نفسه حسدا لغيره فعليه أَن يستعمل معه التقوى والصبر فيكره ذلك من نَفسه).


قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث». (البخاري).
إن الحسد يوجب قسوة القلب، ولؤم الطبع، وفساد الأخلاق، ويمنع القلب من اكتساب أعظم الثواب، إذ القلب الخالي من الحسد مملوء بالخيرحريص على فعل الخيرات.


وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلّ امرئ ما نوى».


فينبغي لمن رام قلبا طاهرا أن يوطن نفسه على الصبر، وأن يجاهد نفسه في بذل النفع للعباد، ولا يمتنع من مخالطتهم إن أصابه منهم شيء من الأذى وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم». (أحمد وغيره).


(فكما أن تطهير قلبك من الحسد يوجب لك النقاء والسلامة، فهكذا صبرك على الحسود، واحتمالك لأذاه، وإحسانك إليه؛ يوجب لك الخيرية والراحة والنصر، كما يمتص حسد الحاسد ويرده، فإن الغالب في الناس أن الإحسان يمتلك قلوبهم، ويردهم إلى رشدهم.


كما قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم  **  فطالما استعبد الإنسان إحسان


وأحسن منه قول الله -جل وعلا-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]).

خامسا: عليك بالقناعة:
إن القناعة والرضى بما كتبه الله من الرزق؛ يوجب للقلب الغنى، ويولِّد فيه الطمأنينة والسكينة، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر:
«يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى» ؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: «فترى قلة المال هو الفقر» ؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: «إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب».(صحيح الترغيب).
 

والقناعة متى سكنت القلوب؛ أصابها الخير كله، وسلِمت من آفات الشح والحرص والبخل، وهي من أخطر الأمراض الفتاكة قال -تعالى-: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16].
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم». (مسلم).
والشح: هو شدة الحرص.
ومن ينفق الأيام في جمع ماله     مخافة فقر فالذي فعل الفقر


إن الحرص يسبب فقر القلب، ويحدث فيه فاقة لا يسدّها شيء أبدًا، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن آدم أنه لا يملأ فاه إلا التراب.

سادسا: كثرة الدعاء:
فإن الدعاء مفتاح لكل خير، وقد وعد الله الداعي بإجابة دعائه:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وقد مر معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه ثبات قلبه على الدين، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بقوله:
«وأسألك قلبا سليما».


وفي حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ، فَاسْأَلُوا اللهَ أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ». (رواه الطبراني والحاكم).
 

ولا شك أن أسباب صلاح القلب وحياته أكثر من أن تحصر في هذا المقال، فاستعن بكثرة ذكر الله وحافظ على فرائضه وأتبعها بالنوافل، واجتنب كثرة النوم وفضول الطعام والكلام والضحك.
نسأل الله قلوبا سليمة، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.