لا تكن يائسا

لا تكن يائسا.. فالمستقبل لدين الله والعزة لأوليائه، إن المستقبل لهذا الدين بدون منازع ولكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية ولكنه بالعمل والبذل والدعوة إلى الله من منطلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة...

  • التصنيفات: تزكية النفس - - آفاق الشريعة -

لا تكن يائسا.. فالمستقبل لدين الله والعزة لأوليائه.
إن من رأى تفشي المنكرات، واستفحال الشر، وتبجح الأعداء، ووطأة الجاهلية يظن أننا مهما عملنا فلن نغير من الواقع شيئا، ولن نجني إلا هباء، فليس من وراء السعي فائدة. فإذا به متجهم الوجه عاقد الحاجبين مقطب الجبين رافعاً راية: "لو أسلم حمار آل الخطاب ما أسلم عمر"، إذا طلب منه خدمة للدين ـ ولو بكلمة ـ رد عليك: أنت تؤذن في خراب، لا أحد يسمع قولك، أنت تنفخ في قربة مقطوعة وغيرها من عبارات:
تصدا بها الأفهام بعد صقالها.......... وترد ذكران العقول إناثاً

إن مما لا شك فيه أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد، والضعيف لا يظل ضعيفا أبد الآبدين، والقوي لا يظل قوي أبد الآبدين،
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 -6].


إننا نملك إيمانا بنصر الله لنا وثقة بتأييده لنا ويقينا بسنة الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل ولو كره المجرمون واطمئنانا إلى وعده الذي وعد به عباده المؤمنين {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55].


إنه وعد يشحذ الهمم ويستثير العزائم ويملأ الصدور ثقة واطمئنانا.. إن الدور لنا لا علينا والتاريخ معنا لا علينا ( {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وإن جندنا لهم الغالبون}. سنة الله رب العالمين، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون»،   «وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيتا مدر ولا بر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل» كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.

إنما أنت أجير:
فأنت أيها المؤمن أجير عند الله، كيفما أراد أن تعمل عملت وقبضت الأجر، لكن ليس لك ولا عليك أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ذاك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير، وحسبك أن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والثلاثة ويأتي من ليس معه أحد
{فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48].


وآية الآيات في هذا الدين أنه أشد ما يكون ٌقوة وأصلب ما يكون عودًا وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً حين تنزل بساحته الأزمات وتوصد عليه المنافذ حينئذ يحقق الإسلام معجزته فينبعث الجثمان الهامد ويتدفق الدم في عروق أبنائه وينطلق وينتـفض).
يقول فيسمع ويمشي فيسرعُ........... ويضرب في ذات الإله فيوجعُ


فإذا النائم يصحوا وإذا الغافل يفيق وإذا الجبان يتشجع وإذا الضعيف يتقوى وإذا الشتيت يتجمع وإذا بهذه القطرات المتابعة المتلاحقة من هنا وهناك من جهود القلة تكون سيلاً عارماً لا يقف دونه حاجز ولا سد.



أمة لا تموت:
إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت وتغفو لكنها لا تنام وتخبو لكنها لا تطفأ أبداً.
حين غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم دمروا المدن وخربوا العمران وأسالوا الدماء وأسقطوا الخلافة وعطلوا الصلوات وألقوا أسفار المكتبات في نهر دجلة حتى اسودّ ماؤه من كثر ما سال من مداد الكتب حتى أصبحت حضارة الإسلام والبشرية مهددة من هذا الغزو الوحشي الذي لا يبقي ولا يذر والذي يذكر بما جاء في وصف يأجوج ومأجوج حتى أحجم بعض المعاصرين للحدث عن الكتابة فيه منهم ابن الأثير رحمه الله الذي يقول: "ليت أمي لم تلدني ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا".
مما رأى من هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين.

ظن اليائسون حينها أن راية الإسلام نكست ولن ترتفع بعد ذلك اليوم أبداً وأن أمة الفتح والنصر قد حقت عليها الهزيمة فهيهات أن تعود إلى الميدان من جديد، ولم يمض سوى سنوات حتى تحققت معجزة الإسلام.. فإذا بهؤلاء الجبابرة الغازين للإسلام يغزوهم الإسلام فتسقط سيوفهم في صف المؤمنين تحت تأثير العقيدة الإسلامية فإذا بهم يدخلون في دين المغلوبين على خلاف ما هو معروف أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب المنصور {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:4]. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثـية:26]. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44]


لا تيأسوا أن تستردّوا عزكم  **  فلرب مغلوب هوى ثم ارتقـى
وتجشموا للعز كل عظيمـــة  **  إني رأيت العز صعب المرتقى

محنة وأمل:
إن قراءة متأنية لتاريخ الصليبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بان الواقع سوف يتغير فاسمع إلى ابن كثير (في البداية والنهاية) وغيره من أهل السير وهم يسردون لك هذا الحدث:
(في ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة اثنين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب وارتكبوا ما لاترتكب أكثر منه الشياطين لبثوا فيه أسبوعا يقتلون المسلمين حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفا منهم الأئمة والعلماء والمتعبدون والمجاورون وكانوا يجبرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت لأنهم يشعلون النار عليهم وهم فيها فلا يجدون مخرجا إلا بإلقاء أنفسهم من السطوح جاسوا فيها خلال الديار وتبروا ما علوا تتبيرا، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدنانير ثم وضعت الصلبان على بيت المقدس وأدخلت فيه الخنازير ونودي من على مآذن لطالما أذن بالتوحيد من عليها: أن الله ثالث ثلاثة- جل اله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث وظن اليائسون ألا عودة لبيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين.


كم طوى اليأس نفوسا لو رأت.......... منبتا خصبا لكانت جوهرا

 

ويمضي الزمن ويعد الرجال، وفي سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة للهجرة أعد صلاح الدين جيشا لإسترداد بيت المقدس وتأديب الصليبيين على مبداهم هم: "إن القوي بكل أرض يتقي" وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تقول:
يا أيها الملك لــــــــــــــذي  **  معالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة تسعى  **  من البيت المقـــدس
كل المساجد طهرت وأنـــا  **  على شرفي أنجــس
فانتخى وصاح واإسلاماه وامتنع عن الضحك وسارع في الإعداد ولم يقارف بعدها ما يوجب الغسل.
من ذا يغير على الأسود بغابها........ أممن يعوم بمسبح التمساح

وعندها علم الصليبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم فتصالح ملوك النصارى وجاؤوا بحدهم وحديدهم وكانوا ثلاثة وستين ألفا فتقدم صلاح الدين إلى طبرية ففتحها بلا إله إلا الله فصارت البحيرة إلى حوزته واستدرجهم إلى الموعد والمكان الذي يريده هو ثم لم يصل إلى الكفار بعدها قطرة ماء إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم.


وعندها تقابل الجيشان وتواجه الفريقان وأسفر وجه الإيمان وأغبر وجه الظلم والطغيان ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان عشية الجمعة واستمرت إلى السبت الذي كان عسيرا على أهل الأحد إذ طلعت عليهم الشمس واشتد الحر وقوي العطش وأضرمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش الذي كانت تحت سنابك خيل الكفار فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال وحر مقابلة أهل الإيمان.

وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل ثم هجموا كالسيل الدفاع لينهزم الكفار ويؤسر ملوكهم ويقتل منهم ثلاثون ألفاً حتى قيل لم يبق أحد ويؤسر منهم ثلاثون ألفا حتى قيل لم يقتل أحد، فلم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله إلا في عهد الصحابة، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رؤي وهو يقود نيفا وثلاثين أسيرا يربطهم في طنب خيمته، وباع بعضهم أسيرا بنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيرا بكلب يحرس غنمه.

ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم إلى فتح بيت المقدس، ففي هذه الاستراحة كيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيأس ؟! الرؤوس لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها، يوم عادت البيع مساجداً، والمكان الذي قال فيه: إن الله ثالث ثلاثة صار يشهد فيه: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم سار نحو بيت المقدس ليفتحه من الجهة الشرقية ويخرجهم منه، فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم - ويخرج ذليلا- عن نفسه عشرة دنانير وعن المرأة خمسة وعن الطفل دينارين ومن عجز كان أسيرا للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسرى للمسلمين.

ودخل المسلمون بيت المقدس، وطهروه من الصليب وطهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالآذان ووحدوا الرحمن وجاء الحق وبطلت الأباطيل وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات وتنزلت البركات وتجلت الكربات وأقيمت الصلوات وأذن المؤذنون وخرس القسيسون وأحضر منبر نورالدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه فكان على يدي تلميذه صلاح الدين، ورقى الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحد وتسعين عاما، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال:
{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:4].

معاشر المسلمين: إن الأقصى لم تعطل فيه الجمعة ولم تعطل فيه الجماعة ومع ذا:
يئست أنفس ونامت عيون....... فجراح تغدو وتأتي جراح


المؤمن لا يعر ف اليأس ولا يفقد الرجاء إذ هو واثق بربه ثم هو واثق بحق نفسه ثم هو واثق بوعد الله، إن مرت به محنة اعتبرها دليل حياة وحركة فإن الميت الهامد لا يضرب ولا يؤذى وإنما يضرب ويؤذى المتحرك الحي المقاوم- كما قيل - كالذهب والحديد يدخل النار فيستفيد إذ يذهب خبثه ويبقى بهاؤه.

إن علينا - معشر المسلمين- أن نكون بحجم التحديات بصبر وثبات.
إن الوصول إلى القمة ليس الأهم لكن الأهم البقاء فيها، وإن الانحدار إلى القاع ليس هو الكارثة لكن الكارثة هو الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، ليس والله الدواء في بكاء الأطلال وندب الحظوظ إنه في الترفع عن الواقع بلا تجاهل له، فالاستعلاء النفسي عليه في تحرر الفكر من إرهاقه ويأسه وخياله، بإرادة قوية حرة أبية يمكن تحويل عوامل الضعف إلى القوة بإذن رب البرية ( إن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حصل في أحد ما حصل شج وجهه وكسرت رباعيته وانخذل عنه من انخذل وإذا به يزيل الآثار النفسية من قلوب المؤمنين بنقلهم إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين لو كانوا حقا منتصرين لما ولوا الأدبار قافلين ولقضوا على البقية الباقية من المسلمين وهذا يدل على حكمة الرسول الأمين عليه صلوات الله رب العالمين، وأبو بكر رضي الله عنه يأتي من بعده وقد تربى على سنته بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة، فإذا به ينقل الأمة نقلة من واقع إلى واقع بتأب عن اليأس وترفع على الهزيمة وحاله:


فليس يجلي الكرب رأي مسدد........... إذا هو لم يؤنس برمح مسدد

إن المستقبل لهذا الدين بدون منازع ولكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية ولكنه بالعمل والبذل والدعوة إلى الله من منطلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة (ووعد الله لن يتخلف لكنه لن يتحقق أبدا على يد أقوام لا يستحقونه ولا يفهمون سننه ولا يضحون من أجله).