ضرورة السنة النبوية لفهم القرآن الكريم

"لا غِنى عن السنة النبوية لفهم القرآن فهمًا صحيحًا، فالدين كله وحي من الله تعالى؛ القرآن الكريم والسنة النبوية"

  • التصنيفات: الفقه وأصوله - - آفاق الشريعة -

بيَّنْتُ في مقال سابق أنه لا غِنى عن السنة النبوية، وأن اتِّباعها لازم، فلا يُستغنى بالقرآن عن السنة، وفي هذا المقال أبيِّن أننا لا نستطيع أن نفهم القرآن بعيدًا عن السنة؛ إذ السنة مُفسِّرة للقرآن وشارحة له.

 

قال الأوزاعي عن حسان بن عطية: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنَّة تُفسِّر القرآن.

 

ولبيان علاقة السنة بالقرآن أقول: للسُّنَّة مَعَ الْقُرْآنِ ثَلَاثَة أَوْجُهٍ:

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: وَالسُّنَّةُ مَعَ الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ فَيَكُونُ تَوَارُدُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ مِنْ بَابِ تَوَارُدِ الْأَدِلَّةِ وَتَضافُرِهَا.

 

الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِمَا أُرِيدَ بِالْقُرْآنِ وَتَفْسِيرًا لَهُ.

 

الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِحُكْمٍ سَكَتَ الْقُرْآنُ عَنْ إيجابِهِ أَوْ مُحَرِّمَةً لِمَا سَكَتَ عَنْ تَحْرِيمِهِ.

 

وَلَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، فَلَا تُعَارِضُ الْقُرْآنَ بِوَجْهٍ مَا، فَمَا كَانَ مِنْهَا زَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ فَهُوَ تَشْرِيعٌ مُبْتَدَأٌ مِن النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تَجِبُ طَاعَتُهُ فِيهِ، وَلَا تَحِلُّ مَعْصِيَتُهُ، وَلَيْسَ هَذَا تَقْدِيمًا لَهَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، بَلْ امْتِثَالٌ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِهِ.

 

وَلَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يُطَاعُ فِي هَذَا الْقِسْمِ لَمْ يَكُنْ لِطَاعَتِهِ مَعْنًى، وَسَقَطَتْ طَاعَتُهُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ، وَإِنَّهُ إذَا لَمْ تَجِبْ طَاعَتُهُ إلَّا فِيمَا وَافَقَ الْقُرْآنَ لَا فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَاعَةٌ خَاصَّةٌ تَخْتَصُّ بِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:  {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}  [النساء: 80]؛ (إعلام الموقعين 2/ 220).

 

ولتوضيح هذا الكلام النفيس أقول:

١- تأتي السنة موافقة للقرآن، فتُؤكِّد ما فيه، ومثال ذلك الأحاديث الآمرة بالصلاة والزكاة وسائر أركان الإسلام والإيمان، كلها جاءت مؤكدة لما ورد في القرآن الكريم.

 

٢- قد تأتي السنة فتُبيِّن ما في القرآن الكريم، وهذا البيان على صور عديدة، فمنها:

تفصيل المجمل: فلقد جاءت آيات القرآن في كثير من القضايا مجملة، ففصَّلها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بقوله أو بتطبيقه العملي لما ورد في القرآن الكريم، فمثلًا في قوله تعالى:  {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}  [النور: 56]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابي المسيء في صلاته -: «إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها».

 

السنة النبوية تخصص عام القرآن أحيانًا:

ففي قوله تعالى:  {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}  [النساء: 11]، جاء الحكم بأن الأولاد جميعًا يرثون من آبائهم وأمهاتهم، ولكن السنة النبوية خصصت هذا العموم «لا يتوارث أهل ملتين ولا يرث مسلم كافرًا، ولا كافر مسلمًا»، فلو كان الأب كافرًا والابن مسلمًا أو العكس فلا توارث بينهما، وكذلك إذا كان الزوج مسلمًا والمرأة كتابية.

 

السنة النبوية تُقيِّد مطلق القرآن الكريم أحيانًا:

ففي قوله تعالى:  {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}  [المائدة: 38]، حيث جاءت اليد مطلقة، واليد في اللغة تُطلَق على الطرف العلوي من الأصابع إلى الكتف، فجاءت السنة النبوية القولية والفعلية بتقييد هذا الإطلاق، فحددت اليد باليمنى، والقطع من الرسغ.

 

كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن إقامة الصلاة بفعله، فصلَّى وقال: «صلوا كما رأيتموني أُصلِّي».

 

ففي هذا كله وغيره تفصيل لمجمل القرآن، وهو لون من ألوان البيان لما نزل عليه.

 

٣- قد تأتي السنة بأحكام جديدة مستقلة ليست في القرآن الكريم، وهذه واجبة الاتباع؛ إذ كلها وَحْيٌ من الله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى  {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}  [النجم: 4].

 

فيجب على المسلمين أن يأخذوا بما شرعه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم معنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه».

 

وقوله تعالى:  {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}  [الحشر: 7]، فوجب الأخذ بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ومن أمثلة ذلك قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الذهب والحرير حيث أخذ الذهب بيمينه والحرير بشماله وقال: «إن هذين حرام على ذكور أمتي حِلٌّ لإناثها»، كما ثبت عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية.

 

فالحاصل أيها الكرام أنه لا غِنى عن السنة النبوية لفهم القرآن فهمًا صحيحًا، قال الإمام الأوزاعي -رحمه الله-: الكتابُ أحوجُ إلى السنَّة من السنَّة إلى الكتاب.

 

فترك السنة والاكتفاء بالقرآن وحده ضلال مبين، وهذا طريق لتحريف كلام الله تعالى، وتفسيره بأهواء الناس، وتحلُّل من الدين؛ ولذلك لما كان سيدنا عمران بن حصين -رضي الله عنه- جالسًا ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: أدنه فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعًا وصلاة العصر أربعًا والمغرب ثلاثًا تقرأ في اثنتين؟! أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد الطواف بالبيت سبعًا، والطواف بالصفا والمروة؟! ثم قال: أي قوم خذو عنا، فإنكم والله إن لم تفعلوا لتضلن.

 

فالدين كله وحي من الله تعالى؛ القرآن الكريم والسنة النبوية، لا يفترقان، وكلاهما محفوظ بفضل الله تعالى.

 

والله الموفِّق والمستعان.

_____________________________________________________
الكاتب: جمال علي يوسف فياض