حقيقة الزهد في الدنيا

قال ابن القيم: "والقرآن مملوء من التزهيد في الدنيا، والإخبار بخستها وقِلَّتها وانقطاعها وسرعة فنائها، والترغيب في الآخرة، والإخبار بشرفها ودوامها، فإذا أراد الله بعبد خيرًا، أقام في قلبه شاهدًا يُعاين به حقيقة الدنيا والآخرة، ويُؤثِر منهما ما هو أولى بالإيثار"

  • التصنيفات: الزهد والرقائق -

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:

الزهد ضد الرغبة والحرص على الدنيا، ومادتها اللغوية: زهِد يزهَد زُهدًا، فهو زاهد من الزَّهادة، وقد ترِد بمعنى الرخيص والقليل والحقير، وما إلى ذلك.

 

الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، وهو عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلُّف، أو كما قال سفيان الثوري: "الزهد في الدنيا قِصَرُ الأمل".

 

قال الله تعالى:  {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]، وقال الله تعالى:  {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].

 

{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11].

 

الإسلام لا يرغب عن الدنيا، بل يرغب عن حرامها، ولا يرغب فيها، بل يرغب في العمل الصالح، الإسلام لا يزهِّد الناس في الدنيا ليتركوها بالكلية وينقطعوا إلى الآخرة، ولا يرغبهم في الآخرة ليُقبِلوا عليها بالكلية ويتركوا الدنيا، بل يتخذ بين ذلك سبيلًا؛ هو الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، أما زهد النُّسَّاك الذين انقطعوا عن الدنيا بالكلية، ورغبوا في الآخرة، فهذه نافلة فرضوها على أنفسهم، ولم يفرضها الله عليهم.

 

فالزهد الحقيقي هو الكفُّ عن المعصية، وعما زاد عن الحاجة؛ ولذلك فإن الزكاة في الإسلام لا تكون إلا فيما زاد عن الحاجة وحال عليه الحَولُ، ومن يزهد فيما فاض عن حاجته، ويتصدق به على من ليس عنده، فهذا زهد مطلوب حثَّ عليه الإسلام؛ قال تعالى:  {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

 

• وحضارة الإسلام لم تقُم على الزهد في الدنيا والانقطاع للآخرة، بل مَزَجت الدنيا بالآخرة، فآتت أُكُلَها طيبًا.

 

عاش نبينا صلى الله عليه وسلم زاهدًا في الدنيا وملذاتها، معلِّمًا الناس كيف يكون أكبر همهم الآخرة، والزهد في حقيقته هو الإعراض عن الشيء، ولا يطلق هذا الوصف إلا على من تيسر له أمر من الأمور، فأعرض عنه وتركه زهدًا فيه، وأما من لم يتيسر له ذلك، فلا يُقال: إنه زهد فيه، ولذلك قال مالك بن دينار: "الناس يقولون مالك زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبدالعزيز الذي أتَتْهُ الدنيا فتركها"؛ (كتاب الزهد لابن أبي الدنيا (ص:227)]) .

 

تحذير:

وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّته من فتنة الدنيا وزخرفها؛ فعن عمرو بن عوف رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَطَ عليكم الدنيا، كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلككم كما أهلكتهم»؛ (أخرجه البخاري في صحيحه (الصفحة أو الرقم: 4015)).

 

حقيقة الزهد في الدنيا:

هو بإيثار الآخرة عليها وعدم التكلف، بل يكتفي بالحلال ويكتفي بما يعينه على طاعة الله، ولا يتكلف شيئًا يشغله عن الآخرة، وليس معنى الزهد ترك الدنيا وترك المال، لا، ترك المشتبهات، ترك الجشع في طلب التجارة الذي يشغله عن الآخرة وعن طاعة الله، وعن طلب العلم، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن النوافل المستحبة؛ يعني يجتهد في طلب الآخرة بالأعمال الصالحة ولا تشغله الدنيا عن الآخرة، ولكن لا يتركها، يطلبها... يبيع... يشتري... يغرس الشجر... يزرع... إلى غير هذا من أسباب الرزق، تطلب الرزق مثلما طلبه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لكنهم لا يُؤثِرونها على الآخرة، لا تشغله عن الآخرة، بل أعمال الآخرة مقدَّمة على أمر الدنيا؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم:  «احرِص على ما ينفعك، واستعِنْ بالله ولا تعجِز، وإن أصابك شيء، فلا تقُل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قدَّر الله وما شاء فعل»؛ (أخرجه مسلم (2664)، وابن ماجه (4168) واللفظ له، وأحمد (8777)، والنسائي في السنن الكبرى (10457))، فالمؤمن يطلب الرزق، ولكن لا تشغله دنياه عن آخرته.

 

قالوا عن الزهد عدل:

قال سفيان الثوري: "الزهد في الدنيا قصر الأمل".

قال ابن المبارك: "الزهد هو الثقة بالله مع حب الفقر".

قال أبو سليمان الداراني: "الزهد ترك ما يشغل عن الله".

قال الجنيد: "الزهد هو استصغار الدنيا، ومحو آثارها من القلب".

 

قال وهيب بن الورد: "الزهد في الدنيا ألَّا تأسى على ما فات منها، ولا تفرح بما آتاك منها"؛  (جامع العلوم والحكم).

 

وقال أحدهم: أعقل الناس: الزهاد؛ لأنهم أحبوا ما أحب الله، وكرِهوا ما كره الله من جمع الدنيا، واستعملوا الراحة لأنفسهم.

 

إذا استغنى الناس بالدنيا، فاستغْنِ أنت بالله، وإذا فرِحوا بالدنيا، فافرح أنت بالله، وإذا أنِسوا بأحبابهم فاجعل أُنْسَك بالله، وإذا تعرَّفوا إلى ملوكهم وكبرائهم، وتقرَّبوا إليهم لينالوا بهم العزة والرِّفعة، فتعرَّف أنت إلى الله، وتودَّد إليه، تَنَلْ بذلك غاية العزة والرفعة.

 

أيها الإخوة، من الحالات التي تلازم المؤمن حالة الزهد، هذا المفهوم يجب الاهتمام به هذه الأيام؛ التي كثرت فيها الفتن؛ وانظر واسمع ماذا قال الله عز وجل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].

 

وكيف لا يزهد المؤمن في الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم يبيِّن لنا حقارتها وزوالها، وأن العيش التام والخالد في الآخرة؛ بقوله: «اللهم لا عَيشَ إلا عَيشُ الآخرة»؛ (أخرجه البخاري (3795)، ومسلم (1804)).

 

وقال عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ما أبْعَدَ هَدْيَكم من هَدْيِ نبيكم؛ أمَّا هو فكان أزهد الناس في الدنيا، وأما أنتم فأرغب الناس فيها"؛ (رواه أحمد (17773، 17809)، وابن حبان (6379) وغيرهما).

 

ومَن أكْثَرَ التدبُّرَ في كلام الله، أورثه الزهد في نعيم الدنيا؛ قال ابن القيم: "والقرآن مملوء من التزهيد في الدنيا، والإخبار بخستها وقِلَّتها وانقطاعها وسرعة فنائها، والترغيب في الآخرة، والإخبار بشرفها ودوامها، فإذا أراد الله بعبد خيرًا، أقام في قلبه شاهدًا يُعاين به حقيقة الدنيا والآخرة، ويُؤثِر منهما ما هو أولى بالإيثار"؛ (تهذيب مدارج السالكين، ص: 258).

 

وإذا تعلَّقت نفسك بنعيم الدنيا، وفُتنت بزخرفها؛ فتأمل قوله جل جلاله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]، فكفى بها واعظة وزاجرة عن التعلُّق بنعيم ناقص منقطع لا يدوم.

 

وقد سبق الصحابة رضي الله عنهم مَن بعدهم مِنَ التابعين بالزهد في الدنيا؛ قال عبدالرحمن بن يزيد: قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "أنتم أكثر صيامًا وأكثر صلاة وأكثر جهادًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرًا منكم، قالوا: لِمَ يا أبا عبدالرحمن؟ قال: كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة"؛ (الجامع لشعب الإيمان للبيهقي (15/ 145) (برقم 10152))، وأخبارهم في الزهد مشهورة؛ فقد بعث معاوية رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها مرة بمائة ألف درهم، فما أمْسَتْ حتى فرَّقتها، فقالت لها خادمتها: لو اشتريتِ لنا منهم بدرهم لحمًا؟ فقالت: ألَا قلتِ لي؟

 

ولما قدم الخليفة عمر رضي الله عنه الشام، أتته الجنود، وعليه إزار وخُفَّان وعمامة، وأخذ برأس بعيره يخوض الماء، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، تَلْقَاك الجنود وبطارقة الشام، وأنت على هذا الحال، قال: فقال عمر: "إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نتلمس العز بغيره"، ودخل رجلٌ على أبي ذر رضي الله عنه، فجعل يقلِّب بصره في بيته، فقال له: يا أبا ذرٍّ، أين متاعك؟ فقال: إن لنا بيتًا نوجِّه إليه صالح متاعنا، قال: إنه لا بد لك من متاع، ما دمتَ ها هنا، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه، وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "من أراد الآخرة أضرَّ بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضرَّ بالآخرة، يا قومِ، فأضِرُّوا بالفاني للباقي".

لله قوم أخلصوا في حبِّـــــــــــه   **   فأحبَّهم واختارهم خُدَّامــــــــا 

قوم إذا جُنَّ الظلام عليهـــــــــم   **   قاموا هنالك سُجَّدًا وقيامـــــــا 

خُمصُ البطون عن الحرام تعفُّفًا   **   لا يعرِفون سوى الحلال طعاما 

 

في المثال يتضح المقال، الله ضرب للناس مثالًا واضحًا عن الدنيا الفانية: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].

 

هشيمًا: يابسًا متفتتًا بعد نضارته.

تذروه الرياح: تفرِّقه وتنسفه.

 

التفسير: واضرب - أيها الرسول - للناس - وبخاصة ذوو الكِبْرِ منهم - صفة الدنيا التي اغتروا بها في بهجتها وسرعة زوالها، فهي كماء أنزله الله من السماء، فخرج به النبات بإذنه، وصار مخضرًّا، وما هي إلا مدة يسيرة حتى صار هذا النبات يابسًا متكسرًا، تنسفه الرياح إلى كل جهة، وكان الله على كل شيء مقتدرًا؛ أي: ذا قدرة عظيمة على كل شيء.

 

مثال نبوي كريم: في بعض المواقف كان يكفي النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد ردًّا مباشرًا على تساؤل أو استفسار، وُجِّه إليه من أحد أصحابه، لكنه صلوات الله وسلامه عليه آثر في بعض المواقف ضَرْبَ المثل ردًّا على ذلك؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثَّر في جنبه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وِطاء، فقال: ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها))؛ (رواه الترمذي وصححه الألباني)، وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بالسوق، داخلًا من بعض العالية، والناس كَنَفَتَيه - عن جانبيه - فمرَّ بجديٍ أسَكَّ - مقطوع الأذنين - ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم»؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ قال: «أتحبون أنه لكم»؟ قالوا: والله لو كان حيًّا كان عيبًا فيه؛ لأنه أسكُّ، فكيف وهو ميت؟ فقال: «فوالله لَلدنيا أهونُ على الله من هذا عليكم»؛ (رواه مسلم).

 

ومع هذا المثل من النبي صلى الله عليه وسلم للدنيا، فقد ربَّى وعلَّم أصحابه أن تكون نظرتهم للدنيا نظرة متوازنة؛ تزهد فيها دون أن تترك إعمارها، فليس الزهد وعدم التعلق بالدنيا داعيًا إلى خرابها، بل يعمرها المسلم دون أن يفتن بها، ويحاول جمعها من حلال أو حرام؛ لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألَّا تقوم حتى يغرِسها، فَلْيَفْعَل»؛ (رواه أحمد وصححه الألباني).

إن لله عبادًا فُطُنـــــــا   **   تركوا الدنيا وخافوا الفتنا 

نظروا فيها فلمَّا علِموا   **   أنها ليست لحيٍّ وطنــــــا 

جعلوها لُجَّةً واتخذوا   **   صالحَ الأعمال فيها سُفُنــا 

 

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، اللهم متِّعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوَّاتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مبلغَ علمنا، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا.

 

وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليمًا.

______________________________________________________
الكاتب: الدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري