المسلمون والنصارى "والخيار الثالث"

عبد المنعم الشحات

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتعاني الأمة الإسلامية في الآونة الأخيرة من حصر اختياراتها في كثير من الأحيان بين خيارين أحلاهما مر؛ ذلك لأن هذين الاختيارين -غالبًا ما يكونان- إما مستفادان من المناهج العالمانية، والتجارب البشرية الوضعية، وإما أنْ يكون أحدهما: عالمانيًا، والآخر: ارتجاليًا هوائيًا.

ويغيب الشرع إلى الدرجة التي يعتبر جميع المشاركين أن رفض أحد الاختيارين هو قبول بالآخر حتمًا ولابد؛ فعلى نطاق النظام السياسي: فإما الديكتاتورية وإما الديمقراطية، وعلى الصعيد الاقتصادي: إما الرأسمالية وإما الاشتراكية، وهكذا..

وربما اتسعت القسمة عند الناس فصارت ثلاثية أو حتى رباعية، ولكن مع بقاء استبعاد الخيار الشرعي الذي ينبغي أن يكون بمقتضى الإيمان هو: "الخيار الإستراتيجي الوحيد"، بل لا ينبغي أن يسمى خيارًا أصلاً، بل هو لا يصلح معه إلا الإذعان التام: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، ولكننا من باب إقامة الحجة على العباد، وبيان أن تطبيق الشرع فيه سعادة الدنيا فضلاً عن سعادة الآخرة؛ نتعرض للخيارات غير شرعية، ونبيِّن كيف أنها تفسد أكثر مما تصلح.

وفيما يتعلق بموضوع العلاقة بين المسلمين والنصارى في بلاد الإسلام، نجد أن الإعلام يدعو إلى ما يسميه: بالـ"وحدة الوطنية"؛ التي تتعدى جانب مصلحة الوطن والتعايش السلمي والمعاملات الحسنة حتى تتضمن أحيانًا ذوبان العقيدة! وتُجيَّش الجيوش، وتنصب الرايات، وتعقد الاحتفالات، وتدشن المسلسلات، وتعقد إفطارات الوحدة الوطنية...

ثم يُصدم الجميع في أول خلاف بين مسلم ونصراني أن الأمر قد تحول إلى ما يسمونه: بالـ"فتنة الطائفية"، والتي تتحول إلى اقتتال فعلي كما حدث في عدة مواقف! على الرغم مِن أن الإعلام لا يفتأ يحذر من الفتنة الطائفية ويذم أهلها، حتى صار شرح عقيدة التوحيد لأبناء المسلمين فتنة طائفية، وحتى صار توضيح قضية: "أن الإسلام حق، وما عداه باطل" فتنة طائفية!

وحتى صار قراءة قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، فتنة طائفية"! وتلاوة قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، وتفسيرها فتنة طائفية!

بينما الطرف الآخر يتحصن داخل "أسوار الكنائس العالية"، ويشرح عقيدته، ويبيِّن الاختلاف بينها وبين الإسلام بصورة مشوهة للإسلام؛ بحيث يترسخ في أذهان النشء بُغض لدين الله يكبر يومًا فيومًا.

بل وصل الأمر إلى عمل مسرحيات تستهزئ بالإسلام، وتسربت خارج الكنيسة وكانت فتنة، وكان الدفاع آنذاك بأنها كانت معدة للعرض على النصارى فقط، وليس المسلمين؛ مما يعني التمسك بحق نقد الإسلام إذا كان هذا موجهًا إلى النصارى، وازداد الأمر سوءًا بوجود قنوات فضائية عامة، بل موجهة بالأصالة للمسلمين؛ تسب الإسلام وتنشر الأكاذيب حوله.

وهو ما يزيد حالة الاحتقان التي تُسَكِّنها "كبسولات الوحدة الوطنية"، ولكن تبقى النار تحت الهشيم، ويبقى الجرح ينتظر مَن ينكأه؛ فإذا به شلال من الدماء والصديد.

ونريد أولاً أن نؤكد على أن تكفير المسلمين للنصارى، وتكفير النصارى للمسلمين أمر واقع، وحقيقة لا يمكن إنكارها؛ لاسيما "الأرثوذكس" الذين يُكفـِّرون "الكاثوليك"؛ فكيف بالمسلمين؟!

ومطالبة كل فريق أن يكف عن تكفير الآخر مطالبة له بترك دينه؛ فالنصارى يعتقدون أن الخلاص في الإيمان بالمسيح -عليه السلام- جامعًا بين لاهوت وناسوت مصلوبًا لفداء البشر، ومَن لم يؤمن بذلك لم يخلص مَن سجن "إبليس" في الجحيم! ويَكفرون بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-.

والمسلمون يرون النجاة في الاعتقاد بأن الله: واحد أحد، فرد صمد {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، ويشهدون: "أن لا اله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله".

والعلاج الشرعي يتمثل في محاور:

محور المسلمين، فيتم تعليمهم -لاسيما طلبة العلم في الأزهر وغيره-:

1- عقيدة التوحيد وما يضادها من الشرك.

2- دراسة تفسير الآيات التي ترد على الأديان الأخرى؛ لاسيما اليهود والنصارى.

3- دراسة علم مقارنة الأديان، وبيان فساد الأديان الأخرى من كتابات معتمدة، تعتمد على الحقائق لا الأكاذيب، ككتاب: "محاضرات في النصرانية" للعلامة الأزهري "محمد أبو زهرة".

4- دراسة عقيدة الولاء والبراء المذكورة في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].

على أن يتم التأكيد في المقابل على المعاني الشرعية الآتية:

1- لزوم الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].

2- وجوب حفظ العهود والوفاء بالمواثيق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1].

3- بيان جواز الإحسان إلى الذميين والمعاهدين بأنواع البر العامة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].

4- جواز البيع والشراء والإجارة مع الكفار؛ إلا فيما يعود ضرره على المسلمين.

وفي المقابل يُنبَّه على كبراء النصارى التالي:

1- احترام دين المسلمين وعدم التعرض له بحضرة أحد من المسلمين، وأن مَن يتعرض منهم للإسلام حتى ولو أمام بني دينه ثم ينشر الكلام على المسلمين؛ فقد انتقض عهده.

2- أن مَن أراد منهم المناظرة يَطلب مناظِرًا كفئًا، ولا نمنعه من هذا الأمر -إن طلبه-، بل يجاب إليه على أن يتم ذلك "بوضوح وشفافية" كما يقولون باصطلاح العصر.

3- المنع مِن كل صور الخروج على النظام العام: كاقتناء الأسلحة أو الامتناع من الانصياع للقوانين أو غيرها من الصور...

إذا تم ذلك يكون البغض التلقائي الذي يحدث نتيجة اختلاف العقائد قد وُجِّه ووظف نحو ما يُسمى: بالـ"تعايش السلمي المنضبط"، بدلاً من محاولة كبته التي تنفجر عند أول عارض؛ لاسيما إذا وجد صاحب مصلحة في استقطاب الأقلية؛ ليصبح زعيمًا على رؤوسها أو على جثثها... لا يهم!