أين أنت من: نظرية المؤامرة؟!

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا...}

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


عندما يقول مسلم: "هناك تآمر من بعض دول الغرب ومؤسساتها وعملائها.. على الإسلام وأهله وبلاده" يتصدى له الآخرون ليقولوا: "إنك واهم. إنك تؤمن بنظرية المؤامرة، وإنك تجعل من تلك الدول والمؤسسات مشجباً تعلق عليه ضعفك وتقاعسك". أليس تآمر الصهاينة والصليبيين وأمثالهم حقيقة؟

وبالمقابل: أليس قعود المسلمين عن أخذ أسباب اليقظة والقوة، والقيم الأخلاقية، والنهوض والبحث العلمي.. حقيقة كذلك؟! إنه في تشخيص واقع الأفراد، والمجتمعات، والدول لا يجوز الاندفاع وراء التعميم، ووراء العواطف، ووراء المواقف المسبقة، ووراء الرؤية القاصرة، بل لا بد من النظرة الشاملة المتعقلة، فلننظر إلى قضية المؤامرة من منطلقات نظرية وعملية.

1- القرآن الكريم يبين لنا في آيات شتى أن أعداءنا يكيدون بنا ويمكرون، ويبذلون كل جهد ليردّونا عن ديننا، ويحبّون كل ما يسبب لنا العنت والضرر، ويظهر العداء من كلماتهم على ألسنتهم، وما تُخفي صدورهم أكبر.

من ذلك قول الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا...} [سورة البقرة: 109]. {...وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [سورة البقرة: 217]. {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ...} [سورة التوبة: 32] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنفال: 36].

ولا ينقض هذه الحقيقة ولا ينقصها أن يقال: "إن هؤلاء (الصهاينة والملاحدة...) يحارب بعضهم بعضاً في بعض الأحيان، ولا يقْصُرون عداوتهم على المسلمين!" نعم: إن أسباب العداوة متعددة، لكن العداء للإسلام يشكل قاسماً مشتركاً بين كثير من الأعداء من مشارب شتى، حتى إنهم يتجاوزون عن كثير من خلافاتهم ويتفقون على حرب الإسلام، وسنذكر في الفقرات الآتية نماذج من ذلك.


2- التاريخ القريب يبين لنا تآمر الصهاينة على فلسطين منذ عقدوا (مؤتمر بال) بسويسرا في 1897م، وفي سنة 1915م، في أثناء الحرب العالمية الأولى دخلت بريطانيا في مفاوضات على العرب، وجرت محادثات: (حسين، مكمهون) لتشجيع العرب على الثورة ضد الدولة العثمانية لتحريرهم! وفي الوقت نفسه كانت بريطانيا تجري اتفاقيات مع فرنسا لتقسيم البلاد العربية، التي ستنفصل عن الدولة العثمانية، وهو ما ظهر في اتقافية (سايكس بيكو) في 16/5/1916، بين مارك سايكس ممثل بريطانيا وجورج بيكو ممثل فرنسا، وأعقب ذلك وعد بلفور 2/11/1917 الذي قدّمه آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا إلى الزعيم الصهويني روتشيلد.

وما يزال الغرب وعلى رأسه أمريكا، يقدم كل دعم دبلوماسي ومالي، بل تسليحي كذلك لإسرائيل. ألا يدل ذلك كله على مؤامرة؟! وقبل أن نغادر قضية المؤامرة المستمرة على فلسطين نذكر أن (موشي ديان) وقف عند حائط البراق بعد أن احتلت إسرائيل مدينة القدس في حزيران 1967، فقال: "اليوم فتح الطريق إلى بابل ويثرب، هذا يوم بيوم خيبر".

ومثل ذلك يقول بن غوريون أول رئيس وزراء إسرائيلي: "نحن لا نخشى الاشتراكية ولا القوميات ولا الديمقراطيات في المنطقة، نحن نخشى الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلاً وبدأ يتململ من جديد". ألا يدل ذلك على نوايا الصهاينة وكيدهم؟!

وفي شأن آخر يقول توماس إدوارد (الباحث البريطاني المعروف بلورنس العرب)، والذي انضم إلى المخابرات البريطانية عند إعلان الحرب العالمية الأولى، يقول في تقريره السري الذي أعده سنة 1916 بعنوان (سياسة مكة): "أهدافنا الرئيسة: تفتيت الوحدة الإسلامية ودحر الإمبراطورية العثمانية وتدميرها، وإذا عرفنا كيف نعامل العرب، فهم أقل وعياً للاستقلال عن الأتراك، فسيبقون في دوامة الفوضى السياسية داخل دويلات صغيرة متنافرة".


ويقول لورانس نفسه: "كنا من قبلُ نخاف من الحظر اليهودي والحظر البلشفي، لكن تبين لنا أن الخطر الحقيقي كامن في الإسلام..". وفي شؤون مشابهة نذكر: (مخطط برنارد لويس) لتفتيت العالم الإسلامي، هذا المخطط الذي وافق عليه الكونغرس الأمريكي سنة 1983م في جلسة سرية!

ونذكر مخططات نشر الانحلال الأخلاقي التي يعبر عنها الحاخام ريتشورون بقوله: "شعبنا محافظ مؤمن، ولكن علينا أن نشجع الانحلال في المجتمعات غير اليهودية، فيعم الكفر والفساد، وتضعف الروابط المتينة التي تعتبر أهم مقومات الشعوب، فيسهل علينا السيطرة عليها وتوجيهها حيثما نريد".

ولا ننسى تقرير راند (مؤسسة راند RAND Corporation مقرها في ولاية كاليفورنيا، وهي من أهم مؤسسات الدراسات الفكرية المؤثرة في صناعة القرار لدى الإدرارات الأمريكية..) هذا التقرير الذي يحمل عنوان (بناء شبكات إسلامية معتدلة) ويصف المسلمين المعتدلين الذين يوصي بالتعامل معهم بأنهم "الليبراليون والعلمانيون، الذين لا يؤمنون بالشريعة الإسلامية" ويحدد صفاتهم في عشر نقاط، فالمسلم المعتدل، وفق هذا التقرير هو: الذي يرى عدم تطبيق الشريعة، ويؤمن بحرية المرأة في اختيار الرفيق -وليس الزوج حصراً- ويؤمن بحق الأقليات الدينية في تولي المناصب العليا، ويدعم التيارات الليبرالية..

ونكتفي بهذا الحد من إيراد الأدلة على وجود المؤامرة، بل عُمْقها وخبثها.


3- الواقع الحالي الذي تعيشه الشعوب الإسلامية نرى فيه التخويف من الإسلام باسم محاربة (الإرهاب الإسلامي) وما يسمونه (الإسلاموفوبيا) ونرى فيه تشجيع الانقلاب على حكومة نجم الدين أربكان، لأنه دعا إلى قيام اتحاد الدول الإسلامية الثمانية، ونرى فيه تنصيب الحكام العملاء، ونرى فيه التخطيط لما أسموه (بالشرق الأوسط الجديد) ونشر ما أسموها (بالفوضى الخلاقة) واحتلال أفغانستان والعراق، واستعمال حق الفيتو ضد أي قرار يدين الجرائم الإسرائيلية، وسرقة أموال شعوبنا عبر عقود مع عملائهم، يشترون به ثرواتنا بثمن بخس! فهل نسمي هذا وأمثاله إلا مؤامرة؟!.

نعم، إن هذا يمثل وجهاً من الحقيقة، لكن الوجه الآخر الذي يمثل تخلف المسلمين وتمزقهم وشيوع الفساد والظلم فيهم، لا يمكن ردّه إلى المؤامرة، وفي أقل تقدير فإن دور المؤامرة فيه ضعيف، فحين يخون المرء أخاه في ماله، وحين يحابي الرئيس أقاربه وأصحابه، وحين يعرقل الموظف مصالح المواطنين حتى يقبض الرشوة، وحين يغش المعمل منتجاته، وحين يطفف البائع الكيل والميزان، وحين يتقاعس الإنسان في عمله، فيقبض أجره بغير استحقاق، أو يتكاسل فيقعد عن العمل ثم يتسول جيرانه وأصحابه بحجة أنه عاطل عن العمل، وحين تفشو المحسوبيات لاعتبارات إقليمية وعشائرية..


وحين نكذب ونُخلف المواعيد، ونخون الأمانة ونقصر في العناية بنظافة أجسامنا، ومرافقنا وبيوتنا، وحين يقصر المعلم والطبيب في أداء عملهما، وحين ينافق علماء الدين والأدباء، ورجال الفكر ويتمسحون بالطاغية، وحين يعق الولد أبويه، وحين يهمل الوالدون تربية أولادهم، وحين نتقبل الفكر الوافد من غير تمحيص، ونغفل عما أكرمنا الله به من منهج رباني كامل.. حين نفعل ذلك كله وغيره، فنحن الملومون وليس الغرب الذي يتآمر علينا.

ألم نقرأ قول الله تعالى: {...وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا...} [سورة آل عمران: 120].
إن نصبر على الجوع والمضايقة والسجن، والإغراء والإغواء، ونتقي الله عز وجل في أنفسنا وأهلينا ووطننا.. لا يضرنا كيد الكافرين.


ونقرأ قول الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة آل عمران: 165]. عندما تحل بنا مصيبة في أي جانب من جوانب حياتنا، فلنسأل أنفسنا أولاً: هل قمنا بما يجب علينا؟ هل أطعنا الله فيما أمرنا به؟ هل ارتكبنا من المعاصي والبعد عن منهج الله ما جلب علينا المصائب؟ نسأل أنفسنا ذلك لأن كيد عدونا لن يؤثر فينا إذا لم نكن قد فرطنا في جنب الله.

إنهما جانبان يكمّل أحدهما الآخر: عدو يكيد ويتآمر، ومؤمن يغفُل ويضعف وينحرف، فيصبح أهلاً لنزول عذاب الله فيه. {...وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [سورة آل عمران: 186].


محمد عادل فارس